انتخاب رئيسي رئيساً… محطة مختلفة!

انتخاب رئيسي رئيساً… محطة مختلفة!

ستكون لحظة الانتخابات الرئاسية الإيرانية محطة انعطاف في التاريخ الحديث، ليس لإيران وجيرانها وحسب، بل للعالم. فقد أدّى تزايد حشر النظام في الزاوية إلى إضعافه وتقليص خياراته بين اثنين فقط: إما مجاراة المتطلبات الدولية على الأقل، أو الانجراف خطوة حاسمة أكثر نحو التشدّد والعزلة، وشنّ الحروب في كلّ اتجاه داخلياً وخارجياً.
ربّما يرى بعضنا؛ أو يرغب بأن يرى؛ في ذلك التحوّل ضغطاً أقصى في مواجهة الضغوط الأمريكية الأقصى، تحضيراً لنسخة الاتفاق الأخيرة، وليس ذلك بصعب على نظام يذهب في اتّجاه الأيديولوجيا المنغلقة عميقاً، من دون أن ينسى براغماتيته، القصوى أيضاً بدورها، لكنّ الدلائل المادية كلّها تشير إلى اتجاه آخر في الأعم الأغلب. ونحن بانتظار الإعلان النهائي عن فشل مفاوضات فيينا، أو نجاحها، حتى نتأكّد تماماً إلى أين يتّجه المسار.
عرفنا في السابق رئيساً متشدداً هو محمود أحمدي نجاد، الذي ثبتت حالياً مرونته المختلفة تماماً، مع الموجة التي جاءت برئيسي رئيساً للجمهورية الإسلامية. كان المرشد أو الوليّ الفقيه يمسك بخيوط اللعبة عن بعد، وليس بكلّ تلك الخيوط أيضاً، بل ما هو رئيس بينها وأساس، ويتعلّق باستمرار النظام. حالياً، اضطرّ المرشد إلى التدخّل بفظاظة، وأجبر الهيئة المعنية على تصفية خصوم رئيسي في المعركة الانتخابية، ليدخل البلاد بذلك في نفق أكثر ظلاماً. وبالأساس، كانت هنالك دائماً سلطتان في إيران، تعتمد إحداهما على الحرس الثوري ومؤسساته التابعة، وعلى مؤسسة المرشد، بما خفي منها وظهر، وتشكّل هذه السلطة وجه الغول في النظام، نظام يحكم في الظلّ بالخوف والرهبة، وظلّ المرشد، وسلاح الحرس الثوري. كانت تسريبات حديث وزير الخارجية ظريف نفثة تنفيس أخيرة، حين تحدّث عن هيمنة سليماني على السياسة الخارجية. والسلطة الثانية تتمثّل في المؤسسة الرسمية والبيروقراطية، وفي تجليّات المجتمع والدولة، التي تريد العيش والاستمرار، تدعمها خيارات الناس “الطبيعيين”، الذين يريدون الإصلاح والحرية ولو شيئاً فشيئاً. وعلى الرغم من كون هذا الاتّجاه تعبيراً عن معارضة مكتومة للمرشد وأدواته وآلياته، إلّا أنها تلبّي من ناحية أخرى آمال البازار ودوائره بالصلح مع النظام. وقد انتهى كما يبدو ذلك المسار، أو أن عليه التراجع خطوة إلى الوراء الآن، ستتبعها غالباً خطوات أخرى. يبدو أن هيبة النظام الإيراني الخارجية، رغم غرابته تُبنى على خمسة أركان على الأقل. من بينها الأيديولوجيا بذاتها، ولن نستهين – نحن العرب على الأقل- بطاقاتها الرهيبة، خصوصاً حين تصل بروابط مباشرة ما بين الله والبشر، عن طريق نائب الإمام. ثم النفط الذي تحتاجه الصين على وجه الخصوص، في صراعها الأهم عالمياً مع الولايات المتحدة، على السيادة والهيمنة على الكوكب. ثمّ يأتي التهديد النووي الذي يمكن أن يحسم الموضوع، لو تطوّر في اتّجاه الحصول على السلاح النووي، وحصل عليه بالفعل، ثمّ الصواريخ الذكية والغبية، علماً أن تلك الغبية منها ليست أقلّ تهديداً وإرهاباً للآخرين، هذه الصواريخ ينبغي أن تكون سابقةً على الاتفاق النووي على طاولة التفاوض، وعلناً لا على الهامش. ثمّ تأتي البؤر الثورية أو الإرهابية التي تدعمها أو تخلقها أو تشجّعها إيران، مثل وحدات الحشد الشعبي المرتبطة بالوليّ الفقيه وأسلحته وذخائره وأمواله وفتاواه، وحزب الله الذي خرج من طوق لبنان ليكون وحداتٍ خاصة للمرشد في أكثر من مكان: في سوريا والعراق، مع علاقات لافتة في الحوثيين في اليمن وحماس والجهاد في غزة مثلاً؛ من دون أن ينسى واجبه الأكبر في لبنان، وبقاءه استفزازاً خاصاً لإسرائيل أيضاً، في الجنوبين اللبناني والسوري أيضاً. وفي هذا الصف ذاته في سوريا تندرج الميليشيات الطائفية المتنوعة في سلك يرتبط بطهران، يتمركز إلى جوارها الحرس الثوري بنفسه.

لم ينتبه العالم لخطر النظام الإيراني، من حيث إضرامه لنيران خامدة وجعل الصراع السني – الشيعي محركاً لكوارث الحاضر والمستقبل

ذلك كلّه كان يمرّ بصعوبة حتى الآن، لكنه سيزداد صعوبة حتماً في المرحلة المقبلة، بعد أن أنجز خامنئي “انقلابه”، وهيّأ مقوّمات استمرار ظلّه على الأرض الإيرانية التعيسة، من خلال انتخاب رئيسي، وتقليص دائرة الحكم والسيطرة، من خلال انتخاب رئيسي. وربّما كان الأمر تحدياً إضافياً لأهل المنطقة، والقوى الدولية التي ما زالت تدور في دائرة مغلقة، وتعجز عن تجديد رؤيتها، رغم الحدث الباهر الذي قام به نظام المرشد. كاد ذلك النظام أن ينجز ما عجز عنه غيره حتى الآن، وهو أن يغدو الخطر رقم واحد على المنطقة، ليعيد إلى ورائه الخطر الإسرائيلي، بل إنه جعل إسرائيل تقفز خطوتين معاً إلى أمام، فلا يعود خوفها على أمنها مشكلة لها من جهة العرب – عموماً- بل تصل إلى تخوم قيام تحالف مشترك مع بعض الدول العربية لمواجهة الخطر الإيراني، الأكثر ديناميكية، عنفاً وحماقة “ثورية” أيديولوجية المنشأ. مع ذلك كلّه، يبقى أخطر تهديد لسلام المنطقة حالياً، متمثّلاً في سياسات نظام المرشد القائمة على” التبشير” الديني. ولا يحرّك هذا التبشير قوى غريبة قاسية الملامح والسلوك في أكثر من مكان وحسب، بل يحاول القيام بتغييرات ديموغرافية، إمّا بإحلال سكان بدلاً من سكان، أو بتغيير انتماءات الساكنين أنفسهم بقوة الدعوة، الدعاية من جهة، وبقدراتها المادية المغرية في زمان العوز والقهر، وبالاستناد أيضاً إلى الخوف من الإرهاب السني، يعمل الإرهاب الشيعي على نشر الخوف الخاص به؛ بل إنه يحرّض مباشرة وبالملموس أو بغير مباشرة، على تنمية الإرهاب الآخر، واستخدامه في إطار استراتيجيته.
لم ينتبه العالم بالدرجة والطريقة الكافيتين، المكافئتين لدرجة وطريقة الخطر الذي يمثّله النظام الإيراني، من حيث إضرامه لنيران قديمة خامدة أو تكاد منذ قرون، ليجعل الصراع السني – الشيعي من جديد محركاً لكوارث الحاضر والمستقبل. ربّما تكون هذه أيضاً أخطر في العمق من خطر وصول إيران إلى السلاح النووي، وربما ستجعل من المنطقة فوهة لبركان لا تصدّر للعالم إلّا الدخان والحرائق. ليس هذا الصراع لعبة على الإطلاق، تُستخدم في التأثير في صراعات أقلّ خطراً وأهمية بالتأكيد، وينبغي لها أن لا تكون كذلك. لم تأبه إدارة خامنئي لما يمكن أن يفهمه العالم من فرضه لرئاسة رئيسي، وهذا قدر المستبدّين وأنظمة الاستبداد معاً، ولعلّ هذا يكون عادياً، لولا ما يمثّل الاستبداد المعنيّ من طغيان قائمٍ على مبرّرات دينية، كان على كبار شيوخ المذهب الشيعي أن يكونوا أكثر حزماً أمامها، على الرغم من أمثولة محمد حسين فضل الله. وربّما سوف تظهر مقاومة “داخلية” أكبر بالتدريج، تحرضها وقائع ومخاطر ما يجري… ولعلها لا تتأخّر كثيراً.
بناءً على ذلك كله، يرى بعض الخبراء أن ما يهم النظام الإيراني في مفاوضاته على استعادة فاعلية الاتفاق النووي، وما يرتبط بذلك من حيث التراجع عن العقوبات المرهقة جداً، هو النجاح في استبعاد أيّ بحث في ما يخص صواريخ إيران الاستراتيجية، خصوصاً في ما يخص نشاطات النظام في المنطقة، في دعم بشار الأسد وحزب الله وحماس- للأسف- والحوثي، ومعهم حزب الله العراقي وقوى ننسى أسماءها أحياناً. في هذا الحقل الأخير، يمكن للنظام أن يتراجع تكتيكياً في بعض الحالات بالمقايضة مع مكاسب أخرى، ولكنه لن يتراجع استراتيجياً على الإطلاق؛ فحياته ومستقبله مرتبطان بهذه الاستراتيجية. أما الآخرون مثلنا، الغارقون في آثار تقدّم تلك الظاهرة فوق مصائبهم الخاصة بهم، فنبقى في حيص بيص، في محطة انتظار الكوارث.

القدس الغربي