حين انهار جزء من موقع طاق كسرى (إيوان المدائن) الأثري في العراق –المعروف أيضا باسم “قوس طيسفون”، عاصمة الإمبراطورية الفارسية والساسانية أعربت إيران عن استعدادها للمساعدة في ترميمه.
وكانت إيران مستعدة لإنفاق، يصل إلى 600 ألف دولار على المبادرة المقترحة، لكن الآراء في العراق كانت منقسمة حيال قبول هذا الاقتراح. ففي حين رحب بعض العراقيين بالمساعدة المحتملة لترميم “طاق كسرى” وإنقاذ هذا البناء التاريخي، تساءل آخرون عن النوايا الكامنة خلف هذا العرض، ولا سيما في وقت ترزح فيه إيران تحت وطأة العقوبات، وتعاني أغلبية سكانها من ضائقة اقتصادية كبيرة.
وفي مواجهة القلق الصريح الذي أعرب عنه العديد من العراقيين بشأن محاولة توحي بما يشبه مطالبة إيرانية بأراض عراقية، تخلت إيران في النهاية عن هذه المبادرة. لكن هذا الحدث أعاد إلى الأذهان شبح الذكريات التي تطارد العلاقات الإيرانية-العراقية، والنهج الذي تتبعه إيران تجاه جيرانها من جهة الغرب على نطاق أوسع. ولا يقتصر هوس إيران بوضعها التاريخي وحضارتها على النظام الحالي فقط، بل كان هذا الخطاب حاضرا أيضا في عهد الشاه، وذلك على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين الأنظمة السياسية السابقة والحالية. وتدعم هذه الحقيقة الحجة القائلة بأن الموقف الحضاري الإيراني ليس دينيا أو طائفيا فقط، ولا يقتصر على اللحظة الحالية. علاوة على ذلك، يمكن القول بأن مفهوم الحضارة قد ساهم في تطوير مفهوم ولاية الفقيه التي اعتنقها الخميني، والتي تربط السلطة الدينية بسلطة الدولة. وقبل سنوات عديدة، كان كيسنجر قد تساءل عما إذا كانت إيران تريد أن تكون أمة أم قضية، واليوم، من الأنسب التساؤل عما إذا كانت إيران دولة قومية أم دولة حضارية.
الدولة الحضارية هي مفهوم محمل بالدلالات، وجزء من المرحلة الحالية للسياسة الدولية القائمة على عالم ما بعد الحرب الباردة. ومع ظهور أزمات الهيمنة الليبرالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبحت الدول الحضارية تشكل تحديًا وبديلاً محتملاً للروايات الغربية عن الحكم. ولمصطلح “الحضارة” تاريخ خاص في الخطاب السياسي الغربي، حيث ساهم في تشكيل مقاربات الغرب السياسية. وعلى الرغم من أن مصطلح الحضارة ليس جديداً، فقد اكتسب رواجاً واسعاً في حقبة ما بعد الحرب الباردة من خلال أعمال برنارد لويس وصامويل هنتنغتون.
أثارت فكرة هنتنغتون “للصدام” الذي يشكل العلاقة بين الحضارات، نقدًا كبيرًا، ودعا آخرون إلى تعزيز “حوار الحضارات. ولكن، إذا كان الصدام غير مرغوب فيه، على عكس الحوار، فإن واقع هذين النهجين أدى إلى شيء مختلف، وهو ظهور ما تسمى بـ”الدول الحضارية”.
على المستوى النظري، هناك توتر بين المفاهيم السياسية للدولة والحضارة، فالمفهوم الأول يدفع باتجاه التجانس والمركزية، بينما يشير الأخير إلى التعددية والافتقار إلى المركزية الرسمية. وإذا كانت النقاشات السابقة في العلوم السياسية قد ركزت على طبيعة العلاقة بين الحضارات، فإن النقاشات الحالية تركز على أهمية العلاقة بين الدول التي تجعل من الحضارة مصدراً لقيمها وتهدف إلى تحدي قواعد النظام الدولي التي يعتبرها الغرب أمراً مفروغا منه، وقد أكد كتاب كريستوفر كوكر على هذا المفهوم.
يتمتع إطار الدولة الحضارية بأهمية سياسية كبيرة محتملة بين الدول التي تُعرّف نفسها على هذا النحو. وفي النسخة المسربة من اتفاق التعاون بين الصين وإيران، الذي سيمتد على مدار 25 سنة، شدد البلدان على هويتهما المشتركة كحضارتين آسيويتين قديمتين، وهو ما يوضح الكيفية التي تتشابك بها المجالات السياسية والثقافية في الدول الحضارية.
في حالة إيران، أحدث النموذج الحضاري تأثيرا مباشرا على سياستها الخارجية التوسعية، حيث شكل بشكل خاص وجهات النظر الإيرانية حول المساواة في السيادة -أو غيابها– بين الدول التي تشكلت خارج النموذج الحضاري. (عادة ما تكون حدود الحضارة أكثر ضبابية من حدود الأمم، مما قد يخلق مشاكل للدول التي تعلن نفسها على أنها دول حضارية.”
تعتمد الدولة الحضارية على مركزية الدولة وامتداد ذاكرتها الحضارية لتعزيز التدخل والتوسع وخلق مناطق النفوذ. ومثل هذه الدولة “تعرف نفسها من حيث ثقافتها وقيمها وليس كدولة سياسية داخل حدود جغرافية معينة، حيث يتحدث الناس لغة واحدة وينتمون إلى نفس المجموعة العرقية”. وهكذا، فإن هدف إيران الواضح هو خلق مساحة إقليمية من خلال الاستفادة من الثقافة والتاريخ والمعتقدات.
وتتجلى جميع هذه الديناميات في العلاقة بين إيران والعراق، والمحاولات الإيرانية لخلق مناطق نفوذ كبيرة. وبذلك، سيساعد نموذج الدولة الحضارية على تحديد المحرك الأيديولوجي لتلك الجهود. ففي حين يتم تقديم النفوذ الإيراني في العراق على أنه قوة معارضة للنفوذ الأميركي، فإن هذا لا يمثل سوى جزء من المعادلة، حيث تهدف إيران كدولة حضارية إلى تحدي نفوذ القوى الأخرى في المناطق التي تعتبرها خاضعة لنفوذها، كما أن لديها أيضا هدف المضي قدما لبسط نفوذها على تلك المناطق من خلال إعادة تشكيل الفضاء الإقليمي على طريقة ما قبل الدولة، حيث تفرض قوة إقليمية هيمنها على جيرانها.
كما أن الدولة الحضارية مفيدة أيضًا في توقع تداعيات الجهود الإيرانية، حيث يمكن استخدامها لفهم النفسية السياسية الإيرانية التي ترسخ ازدواجية عظمتها وتقمصها دور الضحية في خطاب الحضارة. وفي جوهره، يؤكد هذا الخطاب على أن إيران عظيمة، لكن هيكلية القوى العالمية الحالية لا تسمح لها بممارسة عظمتها. وهذا يتضح من خلال عبارات من نوع المستكبرين الذين يتمثلون في المجتمع المدني والمستضعفين، أي إيران.
ومع ذلك، تُستخدم رواية الضحية هذه أيضًا لتقويض حقوق المواطنة للشعوب المجاورة وسيادتها كشعوب مستقلة. وبالمثل، فإن للعراق تاريخ حضاري عبر بلاد ما بين النهرين، لكن النخب العراقية والوضع الحالي للدولة لا يمكن أن يجعلا من هذه الرواية قابلة لأن توضع في الصدارة، ومن غير المرجح أن يمثل مثل هذا التصور تحديًا للجهود الإيرانية.
في أحسن الأحوال، ما تقدمه إيران لمن هم في نطاق نفوذها الحضاري المزعوم هو دعوة إلى التعددية الحضارية على المستوى العالمي، ورفض للتعددية ضمن نطاق الحضارة الواحدة، ولا سيما حين لا تتوافق إحدى الثقافات أو الهويات مع الثقافة والهوية السائدة للحضارة المسيطرة. وفضلًا عن ذلك، وكما قال كريستوفر كوكر: “يجب النظر إلى الهجوم على الحضارة الليبرالية بما هو عليه فعلًا، أي أقرب إلى كونه حيلة تهكمية تحيكها الدولة لترسيخ خصائصها الثقافية في نظر مواطنيها من هجوم على إيديولوجيا العولمة أو استثنائية الغرب. وما يتمّ حمايته من الغرب ليس الحضارة بحدّ ذاتها، وإنما مصالح نظام معين”.
في عصر التحدي والخطاب الحضاري، سيكون من الضروري للولايات المتحدة أن تعطي الأولوية لدعم القيم على غرار حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات، والاعتراف بتعدد الهويات والاعتراف بالآخر داخل المناطق التي تعتبرها إيران ضمن مناطق نفوذها الحضاري، بما في ذلك العراق. وسوف يكون حرمان الأفراد من هذه القيم تحت راية الحضارة بمثابة إساءة لحقوق الشعوب أينما كانت. وفي حين شدّدت إدارة بايدن على احترام حقوق الإنسان، فقد اكتست هذه السردية، في عصر الخطاب الحضاري، دلالات مختلفة وأهمية أكبر، وأصبحت ضرورية للحفاظ على سلامة ووحدة تلك الدول التي تود إيران أن تراها خاضعة لها وتحت تأثيرها.
الغد