يبدو وسط المدينة خاليا حتى مع ازدحام الضواحي بالنشاط، وامتلاء الموانئ بالسلع التي لا يمكن نقلها، ويبدو أن نقص سلسلة التوريد أسوأ من أي وقت مضى باستثناء الأيام الأولى للوباء، عندما كان الأميركيون يفرحون بالعثور على لفافة من ورق الحمام أو كيس من الدقيق.
تزداد الأمور الاقتصادية غرابة من نواح كثيرة، إذ تستمر المكاتب في تأخير مواعيد العودة للعمل، وحتى في المكاتب المفتوحة يقوم العديد من الموظفين بإجراء مقابلات على تطبيق “زوم” وهم في مكاتبهم.
تقول الكاتبة ميغان مكاردل -في تقريرها الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” (Washington post) الأميركية- إن اللوم يقع على المتحور دلتا بالطبع، بالإضافة إلى العدد المذهل ممن يرفضون تلقي التطعيم، ولكن نقص العمالة هو المُلام أيضا، الذي قد يكون أغرب ظاهرة على الإطلاق.
انخفضت نسبة العمالة مقارنة بعدد السكان بنحو 2.4 نقطة مئوية منذ بداية الوباء، وأظهر تقرير الوظائف الجمعة الماضي أن الاقتصاد أضاف 194 ألف وظيفة فقط في سبتمبر/أيلول الماضي، وهو أقل بكثير من توقعات الاقتصاديين البالغ عددها 488 ألفا، مع أن أرباب العمل يبدو أنهم على استعداد لرفع الأجور.
لا يوجد سبب واحد يفسر هذا الشغور؛ قد يعود بعضه إلى نزوح اليد العاملة نتيجة الوباء وضرورة ترتيب بعض العمال للعودة، ومشكلة توفير الآباء رعاية موثوقة للأطفال، والصعوبات المستمرة مع فيروس كوفيدـ19، إذ يقاوم الأشخاص الذين يعانون من نقص المناعة أو المعرضين للخطر العمل حضوريا، في ظل استمرار انتشار الفيروس، أما البعض الآخر من العمال فيعانون من الإنهاك في وظائفهم التي أصبحت فجأة أكثر تطلبا أثناء الوباء، وكذلك أولئك الذين كانوا مستعدين لترك وظائفهم حتى قبل العام الماضي، لكنهم قرروا تأجيل ذلك في خضم انتشار الوباء.
ولكن يبدو أن كثيرا من هذا يعكس الظاهرة التي يطلق عليها أنتوني كلوتز -الأستاذ المشارك في الإدارة بجامعة تكساس إيه آند إم- “التجلّي الوبائي”، بالإشارة إلى الأشخاص الذين قرروا أن الوضع الطبيعي القديم لم يكن جيدا بما يكفي بالنسبة لهم.
يعد هذا الاتجاه أكثر وضوحا في صناعة الضيافة، إذ تتوفر وظائف شاغرة في المطاعم والفنادق من دون توفر يد عاملة، لكن يمكنك أن ترى هذا الأمر في كل مكان، من العمال الذين يقولون إنهم مستعدون للاستقالة بدل تلقي التطعيم أو العودة للمكتب، إلى “التحالف الدولي لموظفي المسرح” (أحد أقوى نقابات هوليود)، الذي صوّت بأغلبية ساحقة على ما قد يكون أوّل إضراب في تاريخ النقابة.
ونقلت الكاتبة عن منسقة الإنتاج في مجلة “فارييتي” كاتي سبوللر قولها إن “كثيرا من الاضطرابات تبدو مدفوعة بالوباء، لهذا السبب نحن بحاجة إلى التوقف وإعادة التفكير في كيفية قيامنا بكثير من الأعمال”.
نقص العمالة
قد يكون النقص في العمالة مزعجا، ولكن نظرا لمدى سوء الوضع السابق في العديد من أركان سوق العمل الأميركية، فإنه من الجيد أن يشعر العمال أخيرا بأن موقفهم التفاوضي قوي بما يكفي للمطالبة بشيء أفضل.
لا عيب أن يرغب العمال في الحصول على أجور أعلى، أو المزيد من المرونة، أو رواتب ومزايا أفضل، أو ظروف عمل أقل إرهاقا، وما إلى ذلك. لكن هذا لا يعني أن هذه الوظائف موجودة، أو يمكن أن تكون مربحة مثل الوظائف القديمة.
وهذا لا يعني أنهم لا يستطيعون تحقيق ذلك أيضا، ففي بعض الحالات من الواضح أنهم يستطيعون ذلك إذا فاز “التحالف الدولي لموظفي المسرح” بامتيازات بشأن ساعات العمل وظروفه، فقد لا يتم إنتاج بعض الأفلام والبرامج التلفزيونية، ومع ذلك قد يتم إنتاج كثير منها، وسيكون وضع هؤلاء العمال أفضل.
من ناحية أخرى، قد يضطر أولئك الذين عملوا في المشاريع التي لم يتم إنشاؤها هنا إلى البحث عن عمل آخر، وقد لا يجد العمال كثيرا من فرص العمل الجيدة التي لا تقارن بوظائفهم القديمة، وينطبق الأمر نفسه على عمال الفنادق والمطاعم، أو المجموعات الأخرى التي تتمسك بأفضل مما لديها.
والأسوأ من ذلك، حتى لو قرروا العودة فقد يجدون أن أرباب العمل قد تعلموا التعايش من دونهم، ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي قد استعاد القيمة التي فقدها خلال الوباء، رغم أن الاقتصاد فقد ما يقرب من 5 ملايين عامل.
بطبيعة الحال، من الممكن أن يخلق هذا الوضع اقتصادا مستنزفا، ولكنه قد يعكس أيضا تكيفات دائمة؛ تراجع خدمة الغرف في الفنادق، واعتماد المطاعم على خدمات الأكشاك أو رموز الاستجابة السريعة، وتحول المكاتب للعمل عن بُعد، والتخلي عن خدمات موظفي الدعم.
يبدو أن الاضطرابات التي سببها الوباء قد فتحت المجال أمام مستقبليْن محتملين لسوق العمل الأميركي؛ أحدهما جيد للغاية، والآخر سيئ للغاية. ولسوء الحظ، فإن الطريقة الوحيدة لمعرفة الصالح منهما هي الانخراط فيها والمجازفة والانتظار لنرى كيف سينتهي بنا المطاف.
المصدر : الواشنطن بوست