واشنطن – تعصف أزمة طاقة لم يشهدها العالم منذ سبعينيات القرن الـ20 الماضي باقتصادات عالمية وسط حالة انتعاش في النشاط الاقتصادي عقب شهور طويلة من الركود بسبب انتشار وتفشي جائحة كورونا.
وصعدت أسعار الغاز والبترول والفحم إلى مستويات غير مسبوقة في الأسابيع القليلة الماضية، مدفوعة بنقص واسع النطاق للطاقة في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، في وقت لم تعوض فيه مصادر الطاقة الجديدة النظيفة ما يعانيه العالم من نقص كبير في مصادر الطاقة، والتي أثرت بدورها على أنشطة اقتصادية وإنتاجية وخدمة مختلفة.
وفي الأسابيع الأخيرة، قفزت أسعار الكهرباء إلى مستويات قياسية تسبق الزيادات الأكبر المتوقعة خلال فصل الشتاء، ويترك ذلك الكثير من الخبراء والمعلقين في حالة توجس وخوف من تبعات زيادة الأسعار وما قد يرتبط بها من أزمات نقص في مصادر الطاقة خلال أشهر الشتاء القادمة.
وفي حوار مع الجزيرة نت، أكدت “جنيفر لايكي” (Jennifer Layke) -مديرة برامج الطاقة في معهد الموارد العالمية بواشنطن- أنه لا توجد حلول سريعة متاحة لمواجهة أزمة الطاقة العالمية التي تمتد من الصين إلى أميركا الشمالية مرورا بالدول الأوروبية.
وأرجعت لايكي الأزمة غير المسبوقة إلى 3 أسباب رئيسية، أولها التبعات الاقتصادية الواسعة لانتشار وتفشي جائحة كورونا، وعدم التخطيط لخفض الطلب على الطاقة، وأخيرا عدم الاستثمار في تنويع مصادر الطاقة.
تبعات انتشار جائحة كورونا على قطاع الطاقة
واعتبرت لايكي أن ما يشهده العالم من نمو اقتصادي بعد أشهر طويلة من الركود مع بدايات الجائحة، دفع إلى زيادة ضخمة للغاية في الإنتاج والاستهلاك والانتقال، وتزامن ذلك مع اضطراب واسع في سلاسل الامداد ونقص كبير في أعدد العاملين وبطء غير متوقع في عمليات النقل البحري والجوي.
وجدير بالذكر أن الرئيس الأميركي جو بايدن قد اتخذ أول أمس الأربعاء عدة خطوات من شأنها المساهمة في حل مشاكل اختلالات سلاسل التوريد العالمية، وأعلن بايدن أن موانئ المحيط الهادي -خاصة لوس أنجلوس ولونغ بيتش- ستعمل بلا توقف لنحو 24 ساعة يوميا ولـ7 أيام أسبوعيا من أجل مواجهة التأخر في عمليات نقل البضائع.
ولم تنج مصادر الطاقة من اضطرابات سلاسل التوريد التي أصابت الكثير من السلع والمنتجات، ولم تكن مصادر الطاقة استثناء. ويتوقع بعض الخبراء أن الأزمة الكبيرة التي تعصف حاليا بسلاسل التوريد يتوقع لها أن “تزداد سوء قبل أن تتحسن”.
ولا تزال تبعات جائحة كوفيد-19 تؤثر على الطلب العالمي المتزايد على كل مصادر الطاقة، وعلى الرغم من طول الموجة الثالثة من انتشار الفيروس والمعروفة بمتحور دلتا، وما تبع ذلك من قيود على حركة الأشخاص، لم يتأثر الطلب العالمي على الطاقة، بل استمر في الارتفاع، ومن المتوقع أن ينتعش الناتج الاقتصادي العالمي بنسبة 6% هذا العام (2021)، وهو ما يزيد على مستويات عام 2019 القياسية قبل تفشي الفيروس بنسبة 2%.
معضلة ارتفاع الطلب والاستهلاك المستمرة
تعد زيادة الطلب طبيعية بعد حالة ركود اقتصادي عانى منها العالم بلا استثناء بسبب كورونا، واعتبرت لايكي أن “عدم الاستثمار والتخطيط لتخفيض الاستهلاك والتحكم في الطلب المتزايد على موارد الطاقة، أمور ساهمت بصورة كبيرة فيما تشهده أسواق العالم من اضطرابات في العرض والطلب، والاستهلاك وتذبذب الأسعار”.
وترى لايكي أن اضطرابات المناخ غير المتوقعة والتي شهدتها الولايات المتحدة على سبيل المثال، والتي دفعت لإغلاق مصافي النفط في ولاية تكساس على أثر عاصفة ثلجية نادرة في الشتاء الماضي، والفيضانات والأعاصير التي ضربت ولاية لويزيانا بما أثر على إنتاج وتوزيع بترول خليج المكسيك قبل أسابيع، كلها أحداث لم يكن من الممكن التخطيط لمواجهتها مبكرا.
وأشارت لايكي إلى “زيادة مقدراها 3.5% في الاستهلاك، وهذا عكس ما كان ينبغي أن يكون من خفض في الاستهلاك، وهو تطور في عكس الاتجاه المطلوب”.
من ناحية أخرى، تشير تقارير وكالة الطاقة الدولية إلى اتجاه الطلب على الكهرباء نحو أسرع نمو له منذ أكثر من 10 سنوات، ومن المقرر أن يزداد الطلب على الكهرباء بنسبة 4.5% في عام 2021، وهذا أكبر بـ5 مرات تقريبا من الانخفاض الذي عرفه العالم العام الماضي بسبب الركود الذي تسببت فيه جائحة كورونا.
عدم الاستثمار الكافي في تنويع مصادر الطاقة
واعتبرت خبيرة الطاقة الأميركية لايكي أن ثالث الأسباب وراء الأزمة العالمية الحالية للطاقة يتمثل في عدم الاستثمار الكافي في تنوع المصادر، عن طريق التخطيط لبنى تحتية مناسبة لمواجهة زيادة الطلب والاستهلاك، وتراجع أهمية عملية التخزين في حسابات صانعي السياسة.
وترى لايكي أن “كفاءة استغلال الطاقة” (Energy Efficiencies) تراجعت بشدة وتحتاج لمراجعات دورية، وأنه “علينا أن نستخدم الطاقة بذكاء وكفاءة خاصة مع ندرة المتاح منها في هذه الظروف الاستثنائية”.
ولم تستثمر كثير من الدول في مصادر الطاقة البديلة والمتجددة كوسيلة لتجنب الأزمة الحالية والمتوقعة لها أن تزداد خلال أشهر الشتاء القادمة.
وذكر تقرير لوكالة الطاقة الدولية أن “الاستثمارات العالمية غير كافية لتلبية احتياجات العالم المستقبلية من الطاقة، والإنفاق المرتبط بالتحول يزيد تدريجيا، لكنه لا يزال متواضعا للغاية، أمام حجم الإنفاق اللازم لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة”.
ونما الطلب على مصادر الطاقة المتجددة بنسبة 3% عام 2020، ومن المتوقع أن تزداد في لجوء جميع القطاعات الرئيسية العام الجاري 2021، مثل التدفئة والتصنيع والنقل، لزيادة الاعتماد النسبي عليها. ويتوقع أن تمثل مصادر الطاقة المتجددة 7% من إجمالي الكهرباء المستخدمة حول العالم بنهاية هذا العام.
وأشارت الخبيرة الأميركية إلى أن الصين تتحرك سريعا نحو عدم الاعتماد الكبير على الوقود الأحفوري عن طريق الاستثمار في السيارات الكهربائية، وتكنولوجيا البطاريات الهيدروجينية، وستنتقل لاستخدام هذه التكنولوجيا الجديد في صناعات أخرى ولن تقتصر على السيارات في المستقبل القريب.
وطالبت لايكي الدول والحكومات بتحفيز الشركات الصناعية والمؤسسات الكبرى للاستثمار والانتقال لمصادر الطاقة المتجددة عن طريق الحوافز والخصومات الضريبية.
ونصحت لايكي “منتجي البترول والغاز بالانتقال واستغلال ما لديهم من مصدر طاقة تقليدية مرتفعة الثمن حاليا، للاستثمار في مصادر طاقة هيدروجينية مستقبلية نظيفة وخضراء، وعليهم تأهيل العمالة التقليدية ليصبحوا عمالة مهيئة للمهام مرتبطة بمصادر الطاقة الأخرى”.
واعتبرت الخبيرة الأميركية أن مؤتمر جلاسغو القادم بإسكتلندا حول المناخ يعد فرصة جيدة لكثير من الدول لبدء الدخول في مرحلة جديدة من الانتقال التدريجي لمصادر متجددة للطاقة.
ويتخوف الخبراء من الارتفاع التقليدي في الطلب خلال موسم الشتاء، وهو ما قد يؤدي إلى زيادات قياسية في الأسعار ترتفع عما يعرفه العالم اليوم من ارتفاع كبير بالفعل في أسعار مصادر الطاقة.
وترى جنيفر لايكي أن الرابحين من الأزمة الحالية في قطاع الطاقة العالمي هم هؤلاء “الذين قاموا مبكرا بتنويع مصادر الطاقة لديهم، ومن استطاعوا العمل على تقليل الطلب على مصادر الطاقة، ومن استثمروا في بنية تحتية للتخزين والنقل”.
في حين اعتبرت لايكي أن الخاسرين مع الأسف هم ملايين المستهلكين الذين عليهم دفع تكلفة أكبر للحصول على التدفئة والكهرباء حاليا وفي الأشهر القادمة.
وأشارت لايكي إلى تقارير الأمم المتحدة الحديثة التي تؤكد زيادة عدد الفقراء بسبب تبعات فيروس كورونا، وطالبت الحكومات بالتدخل لحماية الضعفاء والفقراء من المستهلكين.
وتقود لايكي فريقا يضم أكثر من 40 متخصصا في مجال الطاقة حول العالم بهدف نشر حلول تحسين استخدام الطاقة والطاقة المتجددة وكيفية الوصول إلى مصادر الطاقة الجديدة.
وقد ركزت لايكي عملها على مسارات مبتكرة لشراء الطاقة لاستخدام الشركات، ولكيفية تحول المدن إلى الطاقة النظيفة، وتشمل خبرات جنيفر لايكي الدولية تقديم استشارات للبنك الدولي ولوكالة حماية البيئة الأميركية.
المصدر : الجزيرة