تعطي نتائج الانتخابات العراقيّة فكرة عن سلوك إيراني يرفض الاعتراف بما يطمح إليه الشعب العراقي الذي يُفترض أن يكون تحرّر من نظام دكتاتوري، كان على رأسه صدّام حسين، قبل ثمانية عشر عاما.
حسنا، تخلّص العراق من صدّام حسين الذي جلب على العراق حربين مدمّرتين قبل أن تطيحه حرب ثالثة شنتها الولايات المتحدة على بلده بكلّ جيوشها. ما النتيجة؟
لا حاجة إلى الذهاب بعيدا في وصف الوضع العراقي. ليس أفضل من يقوم بهذا الوصف في هذه الأيّام من الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي كان إلى ما قبل فترة قصيرة محسوبا على “الجمهوريّة الإسلاميّة” وليس مستبعدا أن يكون لديه حنينه إليها.
يقول مقتدى الصدر، صاحب أكبر كتلة في مجلس النواب الجديد، في تسجيل، بالعاميّة العراقيّة بالصوت والصورة، يوزع على نطاق واسع “من 2003 إلى 2021، أي ما يقارب عشرين سنة… 18 سنة. شو يلي صار؟ برلمانات، نواب، حكومة، رؤساء، وزارات. شنو النتيجة. أنا أقول لك فقط جوع، خوف، نقص خدمات، صراعات، تسقيط. بعد شنو؟ لا ماء، لا كهرباء، لا صناعة لا صحة لا تعليم، لا نفط، لا سيادة. بس تبعيّة. احكيها بكل صراحة. بس تبعيّة”.
إيران تعتقد أنّ في استطاعتها أن تكون القوّة المهيمنة على المنطقة. ما تقوم به في العراق حيث تدفع ميليشياتها إلى رفض الانتخابات وعدم الاعتراف بها، في حال بقاء النتائج على حالها، ليس جديدا
قد يعود مقتدى الصدر غدا أو بعد غد عن كلامه. قد يتّخذ موقفا مختلفا مغايرا لموقفه الحالي. من يدري. لكن الكلام الذي قاله، قد قاله. يعكس هذا الكلام الصريح والمباشر والبسيط جزءا كبيرا من الحقيقة العراقية. فحوى الحقيقة أنّ إيران ترفض خسارة الانتخابات في العراق وهي مستعدة لإبطال نتائج هذه الانتخابات في حال لم ترق لها.
لا تستطيع إيران الاعتراف بواقع يتمثّل في أنّ العراق هو العراق وإيران هي إيران. تعتبر نفسها انتصرت على العراق الذي خاض معها حربا استمرّت ثماني سنوات كاملة، بين 1980 و1988. انتهت الحرب عمليّا بشبه انتصار عراقي في ضوء القناعة العربيّة والعالميّة وقتذاك بضرورة المحافظة على الحدود الدوليّة القائمة بين البلدين. هذه حدود قديمة بين حضارتين كبيرتين، الحضارة الفارسيّة والحضارة العربيّة، على حد تعبير الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران الذي هبّ لنجدة العراق في العام 1981 عندما بدأت كفّة الحرب تميل إلى جانب “الجمهوريّة الإسلاميّة”…
لم يكن مسموحا بتحقيق انتصار عراقي على إيران. في كلّ الأحوال، كانت الحسابات التي قام بها صدّام حسين خاطئة منذ البداية. لم يقدّر أنّ العراق عاجز عن خوض حرب طويلة مع إيران لمجرّد أنّه استُفزّ في عقر داره، عبر ممارسات ذات طابع مذهبي، ولمجرّد لجوء النظام الجديد في إيران إلى تحرّشات على الحدود بين البلدين. كذلك كان العكس ممنوعا. لم يكن مسموحا أن تنتصر إيران على العراق وأن تدخل في عمقه بما يخلّ بالتوازن الإقليمي كلّه.
ما عجزت عنه إيران في حربها مع العراق في ثمانينات القرن الماضي، استطاعت تحقيقه في العام 2003 بعدما خاضت الولايات المتحدة حربا على العراق بالنيابة عنها. يرفض العراقيون قبول نتائج هذه الحرب في ما يخص إحلال سيطرة ملالي طهران مكان أجهزة صدّام حسين. حاولوا تغيير المعادلة مرات عدة، لكنّ إيران كانت لهم بالمرصاد دائما، ولجأت أخيرا إلى فرض ميليشيات “الحشد الشعبي” كي تكون بمثابة نسخة عراقيّة عن “الحرس الثوري” المهيمن على إيران أكثر فأكثر.
لا وجود لمفهوم الانتخابات بطبيعته الديمقراطيّة في نظام “الجمهوريّة الإسلاميّة”. الانتخابات وسيلة لا أكثر. إنّها وسيلة لفرض أمر واقع يؤمن به “الحرس الثوري” وقائده الأعلى أي “المرشد” علي خامنئي. قرّر خامنئي أن يكون، المتشدّد صاحب التاريخ المعروف، إبراهيم رئيسي رئيسا. استبعد كلّ من يمكن منافسته، بما في ذلك محمود أحمدي نجاد وعلي لاريجاني. مطلوب الآن في العراق إلغاء نتائج الانتخابات الأخيرة التي أجريت قبل أسابيع قليلة بحجة أنّها لا تناسب إيران…
الأكيد أنّ إيران تمارس التصعيد على غير جبهة هذه الأيّام. تعتقد أنّ في استطاعتها أن تكون القوّة المهيمنة على المنطقة. ما تقوم به في العراق حيث تدفع ميليشياتها إلى رفض الانتخابات وعدم الاعتراف بها، في حال بقاء النتائج على حالها، ليس جديدا. سبق لها أن فعلت ذلك في العام 2010، عندما حلت قائمة الدكتور إيّاد علّاوي في المرتبة الأولى في انتخابات السابع من آذار – مارس من تلك السنة. رفضت إيران النتيجة وفرضت نوري المالكي رئيسا للوزراء بعد تأديته فروض الولاء لها وتوقفه، بين ليلة وضحاها، عن المطالبة بملاحقة بشّار الأسد تحت مبرّر “إرسال إرهابيين” إلى العراق!
لا تستطيع إيران الاعتراف بواقع يتمثّل في أنّ العراق هو العراق وإيران هي إيران. تعتبر نفسها انتصرت على العراق الذي خاض معها حربا استمرّت ثماني سنوات كاملة
نعم، لدى إيران مفهومها الخاص للانتخابات. طبقته في لبنان أيضا عبر أداتها المحلّية المسماة “حزب الله”. منذ اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في العام 2005 واستكمال “الجمهوريّة الإسلاميّة” وضع يدها على لبنان. بعد ملئها للفراغ الأمني السوري، لا تعترف إيران بالأكثريّة في مجلس النوّاب اللبناني. لا تعترف بهذه الأكثريّة إلّا عندما تكون في جيبها، كما عليه الحال الآن. في العام 2009، لم تستطع الأكثريّة النيابيّة انتخاب رئيس للجمهوريّة ينتمي إلى التيّار السيادي. عندما انتهت ولاية الرئيس ميشال سليمان في العام 2014، أغلقت أبواب مجلس النوّاب. لم يفتح المجلس أبوابه إلّا بعد “اقتناع” معظم النواب بأنّ لا خيار غير انتخاب مرشّح إيران، ميشال عون، رئيسا للجمهوريّة.
يمثّل العراق ولبنان مثلين صارخين على تلاعب إيران بدول المنطقة. هل تفعل ذلك لأنّها قوية بما فيه الكفاية أم نظرا إلى أنّ لا وجود لمن يريد ردعها؟ الجواب بكل بساطة أنّ لا اعتراض أميركيا أو أوروبيا… أو دوليا على ممارسة “الجمهوريّة الإسلاميّة” للدور الذي تمارسه. يتفرّج العالم على ما يدور. يبدو أنّ المشهد يعجبه في انتظار اليوم الذي سيتبيّن فيه أن مشاكل إيران الداخلية وفي المحيط، خصوصا في أذربيجان، أكبر بكثير مما يظنّ قادة النظام وفي مقدّمتهم “المرشد”. يُخشى مجيء هذا اليوم بعد فوات الأوان… بعد أن يتبيّن أنّه لم يعد هناك ما يمكن إنقاذه لا من العراق ولا من بلد مثل لبنان!
صحيفة العرب