تبدو المؤشرات الأولية للتدخل الروسي العسكري في سوريا كلها سلبية حتى الآن، فروسيا تقصف المدنيين أكثر من المقاتلين، والمقاتلين المعتدلين أكثر من المتشددين والتكفيريين. وتعمل على كافة المستويات لإضعاف وتفكيك المعارضة المسلحة. ولا تفكر إلا بحماية النظام ومنع سقوطه. وتصمت عما تقوم به ميليشيات طائفية لبنانية وعراقية موالية للنظام. وتستهزئ بالمعارضة السورية وتُنكرها، ولا تكترث بإيجاد تسوية عاجلة متوازنة عادلة تُنصف الملايين من السوريين ضحايا النظام وحله الحربي.
لكن، بعيدا عن هذه المؤشرات السلبية والتهم التي تحتاج موسكو لكثير من العمل الجدي والعملي والواضح والسريع لإبعادها عنها، وبعيدا عن أي احتمال لتخفيف وطأة التدخل الروسي العسكري في سوريا أو تقديم أي مبررات له، يبرز ضمن مسار الأحداث في الأسابيع الأخيرة أمر يمكن التوقف عنده للتأمل، يتعلق بعلاقة أهم حليفين للنظام السوري، إيران وروسيا.
ليس خافيا على أحد أن كلا البلدين لم يتوقفا منذ أربع سنوات ونصف عن دعم النظام السوري ورأسه، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، ومدا له ماء الحياة، وساهما في بقائه واستمرار عمل آلته العسكرية، ورحّبا ببطشه وعنفه وصلفه، وبالتالي شاركا بشكل مباشر وغير مباشر بقتل المزيد من السوريين وبتوسع نطاق تدمير سوريا.
ينطلق دعم كلا البلدين للنظام السوري من منطلقات أيديولوجية ومصلحية مختلفة بل ومتناقضة في غالب الأحيان، وهذا التناقض ازداد حدّة خاصة بعد الاتفاق النووي الإيراني والعلاقة المتنامية بين طهران وواشنطن والانفتاح غير المسبوق بينهما، ودعّم فرضية ازدياد حدة التناقضات التي جرت في سوريا منذ تدخّل روسيا عسكريا قبل أسابيع.
بعيدا عن الأسباب المُعلنة والواهية لكل من روسيا وإيران لدعم النظام السوري، يمكن الاستنتاج دون عناء بأن روسيا تدعمه لتحافظ على موطئ قدم عسكري في شرق المتوسط، ولتضمن مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة، ولتسترجع عبر البوابة السورية دورها الدولي الذي فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أما إيران فتدعمه لاستكمال “هلال شيعي” يمكن أن يُسهّل لها فرض نفسها كلاعب إقليمي وتستخدم لذلك أيديولوجيا طائفية مقيتة.
طهران تحاول استغلال انشغال روسيا بالضربات الجوية للاستمرار بعملية التغيير الديموغرافي في سوريا
تهميش روسي لإيران
اتّبعت روسيا أسلوبا مواربا لدعم النظام السوري، فحمته دوليا، ووقفت بوجه قرارات أممية يمكن أن تهدده، وأرسلت له سلاحا وخبراء، لكنها لم تتدخل عسكريا على الأرض إلا مطلع الشهر الماضي. أما إيران، فقد أفرطت بدعم النظام السوري، وأرسلت مقاتلين وميليشيات من لبنان والعراق، ومرتزقة من أفغانستان واليمن وغيرها، وشاركت بتخطيط وتنفيذ معاركه ضد المعارضة، وتدخلت بحماية الأسد شخصيا الذي سمح لها بالتدخل في الشؤون السياسية والاقتصادية والإدارية كعربون تقدير، فهيمنت على القرار السياسي والعسكري وحتى الحكومي، وخرج القرار السوري من يد النظام.
لم تُشر روسيا ولا مرّة إلى قلقها من ازدياد التدخل الإيراني في سوريا وهيمنة طهران على القرار السوري، لكن ثلاثة معطيات ميدانية تشير إلى أن روسيا تتعامل منذ أن وطأ أول جندي روسي أرض سوريا بطريقة إقصائية وتهميشية لإيران. المؤشر الأول هو نفي روسيا بشكل قاطع تشكيل غرفة عمليات رباعية مشتركة تضم روسيا وإيران والنظامين العراقي والسوري، وهي أنباء تداولها مسؤولون عراقيون وسوريون موالون لإيران في محاولة للإيحاء للرأي العام بأن طهران شريكة كاملة الشراكة في العمليات العسكرية الروسية بسوريا.
أما المؤشر الثاني فقد بدأ قبل دخول روسيا سوريا بيومين، حيث تم الكشف عن زيارة قام بها الجنرال قاسم سليماني لموسكو “فشل” خلالها بإقناع الروس بمشاركة طهران في غرفة العمليات العسكرية الروسية التي أنشأتها بسوريا، وأفهمته موسكو أنها لن تُشارك بقرارات غرفة عملياتها العسكرية أحدا، لا النظام السوري ولا إيران، وأن دور الجميع سيكون تنفيذيا. يلي ذلك مؤشر ثالث، حيث جرى الكشف عن بدء دمج روسيا للميليشيات المحلية غير النظامية الطائفية والهيكل الأمني الموازي الذي صنعته إيران ضمن فيلق يتبع للجيش السوري ويخضع لأوامر غرفة العمليات الروسية، كما سرّبت مصادر مقربة من النظام أن روسيا أخضعت قوات التدخل الشيعية الأجنبية (لبنان والعراق وأفغانستان) لإمرة غرفة العمليات الروسية.
|
وقف التمدد الإيراني في سوريا
لاشك أن العلاقة المتنامية بين طهران وواشنطن أقلقت روسيا، التي يبدو أنها تخطّط لعكس تأثير هذا التقارب من خلال وقف التمدد الإيراني في سوريا، وبسبب تواجدها العسكري المباشر تضع دول المنطقة أمام خيار النفوذ الإيراني المنفلت أو التواجد العسكري الروسي ضمن معادلة إقليمية جديدة.
ومن غير المستبعد أن تتنازل طهران عن علاقتها بموسكو إن هددت مشاريعها، فهذه العلاقة بالأساس انتهازية لا استراتيجية أملتها ظروف الحصار والنبذ، وهي الآن تتطلع لوعود الاستثمار الغربية الهائلة التي تجعلها بغنى عن التعاون مع روسيا.
لكن المشكلة في الحقيقة أن إيران لن تستسلم بسهولة للرغبات الروسية، وهي في الغالب تماشي الخطة الروسية علنا بينما تخطط لشيء آخر وراء الكواليس، لأنها تُدرك أن خسارتها للساحة السورية ستكون ضربة استراتيجية لكل مشروعها الإقليمي المعتمد على النفوذ الطائفي، وسيسقط نفوذها في لبنان آليا، وسيبدأ العراق بالتحرر من هيمنتها.
يبدو أن إيران تحاول استغلال انشغال روسيا بالضربات الجوية للاستمرار بعملية التغيير الديموغرافي في الكثير من المناطق السورية، وتسعى لتقوية برامج تجنيد في العراق لصالح ميليشيات مختصة بالقتال في سوريا، وتعمل على تشغيل كل أذرعها المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية لفرض هيمنتها على مناطق جديدة ولتخريب ما يخطط له الروس.
يعتقد بعض المعارضين السياسيين السوريين أن روسيا التي اكتسبت عداء السوريين بكثافة، مازال أمامها بصيص أمل وحيد في أن تسترجع الثقة المفقودة، وذلك إذا وضعت بالفعل حدا نهائيا وحاسما لإيران، وتبادر بشكل سريع للتفاهم مع الأطراف الأهم في المعارضة السورية السياسية والمسلحة، لأن تقليص النفوذ الإيراني في سوريا سيوقف التحريض الطائفي، ويوقف التغيير الديموغرافي، ويُنهي استقواء النظام بإيران، ويعيد القرار السوري للسوريين، حيث يمكن عندها فقط إيجاد حل سياسي للأزمة السورية.
باسل العودات
صحيفة العرب اللندنية