لدى جزء من السوريين حساسية تجاه التقسيم، لأنه برأيهم يشطب أي إنجاز لحراكهم ضد الاستبداد طوال عقد. وبالنسبة للموالاة سيكون التقسيم نتيجة غير عادلةٍ للمكافأة التي يتوقعونها نتيجة فوزهم في الحرب. لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن التقسيم خيارٌ قائم، ليس فقط لأن بعض الخارج قد يرغب به، بل لأن النخب السورية، وخصوصا النظام، عجزوا عن إيجاد مقاربةٍ لإخراج سورية من المأزق، ولا يبدو أن ثمّة أفقا في المستقبل للخروج من الورطة، ما دامت الذهنية السياسية الحاكمة تصرّ على أن الخروج من المأزق يكون بإشعال مزيد من الحروب على المعارضين لاجتثاثهم من الحاضر والمستقبل، ومزيد من القمع تجاه الشعب لإيصاله إلى الخضوع المطلق.
كل شيءٍ في تراجع، الديمغرافيا والجغرافيا والإنتاج، بكل أشكاله وحقوله، ما عدا تكاليف الحرب وخسائر الاقتصاد التي ترتفع كل يوم، وثمّة توقعات بملامستها حدود التريليون دولار في زمن ليس بعيداً، في بلادٍ لم يكن يتجاوز ناتجها القومي قبل الحرب أكثر من 60 مليار دولار، ومع ارتفاع فاتورة الخسائر والتكاليف واستمرار بقاء النخب الحاكمة في أقفاصها، الذهنية والسلوكية، تبتعد سورية أكثر عن التعافي، وتصبح إمكانية إصلاح الضرر أمراً لا واقعياً مع فاتورة تكاليف باهظة، وعوائد محتملة متدنية إلى أبعد الحدود.
لا تنطوي مقاربات نخبة الأمر الواقع الحاكمة وداعميهم في سورية على أفكار حيوية لإنعاش البلاد، وهو موقفٌ صادمٌ وغرائبي، فأي أزمةٍ تولّد أنماطاً من الاستجابات لما تفرضه من تحدّيات ومخاطر، بحيث يتعيّن على صانع القرار دراسة الخيارات الممكنة والبحث عن البدائل المقبولة لإغلاق دائرة الأزمة عبر صناعة فرص جديدة، لا الاستمرار بالسياسات نفسها التي صنعت الأزمة، لأن التجريب هنا لن يقدّم سوى النتائج الكارثية المعلومة نفسها. وبالتالي، لن يؤدّي الاستمرار في السلوك نفسه سوى إلى تراكم تلك النتائج، بما يهيئ المجال لمساراتٍ أكثر خطورة تهيئها السياقات المتعثرة.
كل شيء في تراجع، الديمغرافيا والجغرافيا والإنتاج، بكل أشكاله وحقوله، ما عدا تكاليف الحرب وخسائر الاقتصاد التي ترتفع كل يوم
والمفارقة، أنه بدل انتهاج سياساتٍ عقلانيةٍ رشيدةٍ التي هي سمة السياسات في العصر الحديث، نتيجة توفر أدوات ترشيد القرار السياسي، عبر المقاربات العصرية، تتبع سياسة تلك النخبة نهج المقامرة عبر رهاناتٍ غير واقعية، أو غير مدروسةٍ جيدا، مثل الرهان على أن العودة إلى جامعة الدول العربية تنهي أزمة النظام في سورية، مع أن هذه العودة لن تقدّم ولا تؤخّر في وجود بيئة طاردة للاستثمار وتسييل الأموال، فكم حجم الأموال التي يمكن للنظام الحصول عليها من إعادة علاقاته مع الدول العربية؟ وهل ستُغامر هذه الأطراف برمي أموالها في السوق السورية في وجود قوانين استثمار غامضة، وذهنية أمنية تعمل على ابتزاز المستثمرين وتعقيد أعمالهم لدفعهم إلى تقديم تنازلاتٍ ماليةٍ، وهل البيئة الأمنية في سورية، في ظل الفوضى التي ما تزال في مناطق عديدة، منها العاصمة دمشق، يمكن أن تشكّل عامل جذبٍ للاستثمارات الخارجية؟
لا يصلح الفكر الحربي سوى للحروب، يصعب أن يحقّق نتائج ذات قيمة في مجال الإعمار وإنعاش الاقتصاد، لحاجة ذلك إلى آلياتٍ ومقارباتٍ مختلفة، كان على روسيا لو أرادت الاستفادة من وجودها في سورية تغيير الطاقم الحاكم، بعد أن أنجزت السيطرة على قسمٍ واسعٍ من البلاد، كان هذا الإجراء سيكون ضمانةً مهمةً للآخرين لينخرطوا بمشاريع تمويل التعافي، أما بقاء الأدوات نفسها بالأفكار والذهنيات نفسها، فربما يجعل من البنية الحكومية الحالية أمرا واقعا، ولكنه لن يسهم بتحقيق قيم مضافة على شكل استثمارات ومساعدات.
كان يجب صناعة ديناميكيات جديدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية، للخروج من المأزق والتهيئة للقادم، تشكّل بنية تحتية لمستقبل مختلف تسبق تجهيز بنية تحتية اقتصادية. بدون هذه الآليات، واستمرار العطالة، تتشكّل مساراتٌ جديدة، لن تكون في صالح سورية دولة واحدة. من أكثر هذه المسارات إمكانية، يبرز التقسيم الخيار الممكن تحقيقه، ولأن المناطق السورية ومكوناتها الاجتماعية لن تنتظر إلى أن يدرك المركز مدى حراجة الأوضاع القائمة، ولأنها باتت تقف على عتبة الانهيار، ستذهب باتجاه البحث عن خلاصٍ يخرجها من هذا المأزق.
التقسيم خيارٌ قائم، ليس فقط لأن بعض الخارج قد يرغب به، بل لأن النخب السورية، وخصوصا النظام، عجزوا عن إيجاد مقاربةٍ لإخراج سورية من المأزق
ما قد يساعد على السير بهذا الطريق، أن فترة الحرب ساعدت المكونات الاجتماعية في سورية على إجراء اتصالاتٍ مع جهات خارجية، وخصوصا المناطق التي خرجت عن تأثيرات السلطة المركزية في دمشق. وأكثر من ذلك، استطاعت هذه الجماعات تأسيس إداراتٍ ذاتيةٍ لإدارة شؤونها المدنية، وأحيانا علاقاتها الخارجية، من خلال ما كانت تتلقاه من دعم ومساعدات من فاعلين إقليميين ودوليين.
يتصدّر مشهد هذا المسار، الإدارة الذاتية الكردية، وقد تكون تجربتها أكثر التجارب نجاحاً، كما أنها الأقرب بالفعل إلى تطبيق فكرة الاستقلال عن المركز، لكن ذلك لا يعني أن المناطق الأخرى بعيدة عن هذا التشكّل، بل لديها البنية التحتية، غير المعلنة، من كوادر وعقود اجتماعية وأساليب إدارية، وحتى بنى عسكرية لضبط الأوضاع في مناطقها حين تتخذ قرارها بالاستقلال.
المؤكّد أن استمرار السياسات الحالية من النخبة المركزية أسلوب خاطئ في إدارة بلاد تنخرط في أزمة عميقة منذ أكثر من عقد، ولا أفق لتغيير هذا النمط من التعامل. وبناء عليه، لا بد أن تبحث الأطراف عن مخارج ممكنة للخلاص من واقع باتت معايشته مستحيلة، ويبدو التقسيم أكثر هذه المخارج إغراءً، خصوصا وأننا نقف على بعد خطوة صغيرة عن تحقيق ذلك.
العربي الجديد