كان من المأمول لدى الجميع أن يكون عام 2021 هو عام التعافي على مستوى العالم، حيث شهد الاقتصاد العالمي مرحلة بداية التعافي من التداعيات الناتجة عن جائحة (كوفيد – 19) التي انعكست على أداء النصف الأول من عام 2021 إذ حققت الدول المتقدمة والناشئة والنامية على حد سواء تحسناً معقولاً في معدلات النمو الاقتصادي؛ ويعود ذلك بشكل رئيس إلى إجراءات الدعم من خلال الحزم التحفيزية التي تم تطبيقها، بالإضافة إلى تخفيف القيود المفروضة لمكافحة الجائحة مع التقدم المتسارع في توزيع اللقاحات.
ووفقاً لتقرير آفاق الاقتصاد العالمي لشهر يوليو (تموز) 2021، الصادر عن صندوق النقد الدولي الذي توقع نمواً للاقتصاد العالمي بنسبة 6.0 في المائة لعام 2021 مع احتمال استمراره بنسبة 4.9 في المائة لعام 2022م، كما أشارت توقعات الصندوق إلى نمو اقتصادات الدول المتقدمة بنسبة 5.6 في المائة لعام 2021م، وذلك نتيجة لتحسن التدابير الصحية لمعظم تلك البلدان. وكما أنَّ هذه التوقّعات تأخذ في الاعتبار الدعم المالي الإضافي في عدد من الاقتصادات الكبيرة كالولايات المتحدة الأميركية، والانتعاش المتوقع نتيجة وصول معدّلات التحصين فوق 70 في المائة خلال النصف الثاني من عام 2021م.
– سلالة المتحور
وقد أدّى ظهور مجموعة من السلالات المتحورة في النصف الثاني من عام 2021، وآخرها متحور «أوميكرون» إلى تأثير سلبي مع نهاية العام وخصوصاً مع اتخاذ بعض الدول إجراءات احترازية والتي سيكون تأثيرها من وجهة نظري محدوداً على المدى القصير ولن يؤثر على العام القادم؛ وذلك لأنه من الدروس المستفادة منذ بداية الجائحة وآثارها السلبية الكبيرة على الاقتصاد العالمي لا يمكن السماح بتكرارها وخصوصاً مع عدم وجود الكفاءة المالية في الاقتصادات الكبيرة التي من الممكن أن تتحمل صدمات أخرى بحجم أكبر.
– أسواق النفط
شهدت أسواق النفط ارتفاعاً في متوسط أسعار النفط (برنت) حتى شهر أغسطس (آب) من عام 2021، لتسجل حوالي 67.0 دولار للبرميل مقابل 41.2 دولار خلال الفترة نفسها من العام السابق، ويعود هذا الارتفاع إلى الجهود التي بذلتها الدول الأعضاء في أوبك+ بشأن سياسة الإنتاج الملائمة والمناسبة منذ تفشي وباء (كوفيد – 19)، ودورها المهم في تسريع عملية إعادة التوازن إلى أسواق النفط، حيث وصل متوسط سعر النفط خلال شهر أبريل (نيسان) من عام 2020 إلى أدنى مستوى خلال فترة الجائحة عند 18.4 دولار للبرميل بينما وصل متوسط سعر النفط خلال شهر أغسطس من عام 2021 إلى أعلى مستوى عند 70.8 دولار للبرميل.
وقدّرت منظمة أوبك نمو إجمالي الطلب العالمي للنفط لعام 2021 بنسبة 6.6 في المائة مقارنة بالعام السابق ليصل إلى 96.6 مليون برميل يومياً مع نظرة تفاؤلية للطلب العالمي بشكل عام والشرق الأوسط للعام 2022 مرتبطة بالتعافي الاقتصادي في العديد من القطاعات، يقودها البتروكيماويات والنقل والبناء والتشييد وهو ما قد يكون افتراضياً في ظل التوقعات بحدوث الإغلاقات بسبب المتحورات وحالة عدم اليقين التي تعيشها دول العالم في هذا الوقت.
وقد كان للسعودية دور ريادي في إدارة ملف أسعار الطاقة مع دول (أوبك+) لتعزيز المحافظة على أسواق الطاقة عند مستويات مقبولة عالمياً رغم السياسات المعاكسة لبعض المنتجين مثل الولايات المتحدة الأميركية التي حاولت التأثير سلباً على أسعار النفط بشكل غير مبرر رغم أنها أكبر الدول إنتاجاً للنفط ولكن هذا ديدن المملكة في المحافظة على استقرار متوسط وطويل الأجل دون النظر إلى النتائج أو المكاسب.
– التضخم
لم يكن عام 2021 بالوضوح والاستقرار الذي تمنيناه في نهاية عام 2020، بل بدا واضحاً أن العالم يواجه موجات جديدة من التحديات والتهديدات المختلفة. وبالنسبة للاقتصاديين، لم تكن يوماً عملية التنبؤ بالقادم أصعب من هذا اليوم. وللأسف لا يمكن معرفة على وجه اليقين، ما الذي يخبئه المستقبل لنا لكن التوجهات العالمية الجديدة بدأت بالظهور بوضوح مع محاولات الخروج من تأثير الجائحة وانتهائها المنتظر.
ووفقاً لتقرير كي بي إم جي العالمية لتوقعات الاقتصاد العالمي لعام 2021، شمل: الصين، وأميركا، والبرازيل، والسعودية، واليابان، ودول أوروبا، والهند، والمملكة المتحدة، والمكسيك، وكندا، والشرق الأوسط ودول مجلس التعاون الخليجي، وأفريقيا الجنوبية، ونيجيريا، وكانت السمة الأساسية للاقتصاد هي التضخم المرتفع وغير المستقر، الذي تعاني منه معظم الدول، وربما ستسمر حالة عدم الاستقرار كون الجائحة لم تنته بعد، لكن الاقتصادات الكبرى قد أخذت بتغيير منهجية التفكير نحو التركيز على أهداف النمو المستدام طويلة الأجل، عبر تحديد المخاطر المحتملة والفرص الممكنة، والمكاسب المتوقعة من تحقيق التعافي المستدام على المدى الطويل.
ولم تميز جائحة (كوفيد – 19) بين الدول، فقد أصابت كلّ بقعة على وجه الأرض، وأثرت على جميع الاقتصادات، وقد بذلت الحكومات جهدها في إطلاق الحزم الاقتصادية التحفيزية ومحاولات الإصلاح والدعم للمجتمعات والقطاعات المختلفة، وحاولت بجدّ التكيف مع الواقع الجديد.
– الاقتصادات الكبرى
ففي الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال يساعد الطلب الاستهلاكي على البضائع والخدمات المختلفة على تحريك عجلة التعافي الاقتصادي، لكن نقص العمالة (القوى البشرية العاملة) يعيق التقدم المستمر، ومن المتوقع أنَّ يستمر تباطؤ التعافي الاقتصادي، وذلك بسبب تزايد حالات الإصابة بشكل كبير رغم ارتفاع نسبة متلقي اللقاح بسبب انتشار المتحورات الجديدة، ويعدّ الوضع الاقتصادي في كندا إلى حدٍ ما مشابها للولايات المتحدة الأميركية.
وفي اليابان، من المتوقع أن يتسارع النمو الاقتصادي لمعدلات أعلى من المعدلات العالمية، فيما يعتمد التعافي في الهند على إصلاح السياسات وتوزيع اللقاحات بشكل أسرع، وأمّا في دول أوروبا، فقد ساعدت حملات إعطاء اللقاح المتسارعة الاقتصادات الأوروبية على الانفتاح طوال فصل الصيف، وجني الثمار الاقتصادية، إلّا أنّ ارتفاع التضخم واختناقات سلاسل الإمداد والتوريد تشكل تهديداً للتوقعات على المدى القريب على الأفراد والأعمال في أوروبا.
وفي الوقت نفسه، يدخل التعافي الاقتصادي في المملكة المتحدة في مرحلة حساسة، ففي حين أدَّت إعادة الانفتاح الاقتصادي وبرامج توزيع اللقاحات الناجحة إلى تعافٍ سريع خلال الربع الثاني من هذا العام، فإنّ مشاكل سلاسل الإمداد والتوريد مستمرة بالإضافة لنقص في الكفاءات البشرية وخصوصاً بعد الخروج من منظومة الاتحاد الأوروبي؛ مما يؤدي إلى تقييد الإنتاج وإبطاء وتيرة النمو، ومن المتوقع أن يستمر تصاعد التضخم حتى نهاية عام 2022، ويسبب التضخم تباطؤاً في الاقتصاد في البرازيل كذلك، ويعد التعافي الاقتصادي فيها غير متساوٍ على الإطلاق.
– الشرق الأوسط
أما في الشرق الأوسط، تقود دول مجلس التعاون الخليجي التعافي الاقتصادي، وهي تجني فوائد ارتفاع أسعار النفط، إلّا أنّ التعافي في المنطقة مهدد بسبب أي تغيير مفاجئ في قطاع الطاقة. ومع ذلك، فمن المتوقع أن تنخفض معدلات البطالة في عام 2022 في جميع أنحاء المنطقة، وفيما يضغط التضخم على الاقتصادات في الشرق الأوسط إلّا أنّ الدول قد تواجه مشاكل أكبر في السيطرة على ارتفاع الأسعار محلياً.
وأظهرت السعودية نمواً في الناتج المحلي الإجمالي وهو دليل على نجاح سياساتها المالية المتمثلة في الاستمرار في تنفيذ برامج التوازن المالي والاستدامة المالية وضبط الإنفاق مدفوعاً بتحسن إيرادات النفط في عام 2021.
وكانت البدايات في السعودية عام 2021 مماثلة للوضع العالمي، لكن الإجراءات والتدابير المشددة التي اتخذتها الحكومة في حماية المواطن والمقيم وجعلهما الركيزة الأساسية لجميع التدابير والإجراءات وتعزيز كفاءة النظام الصحي، وتوفير اللقاحات للجميع مواطنين ومقيمين عن طريق توفير العديد من مراكز اللقاح في مناطق المملكة، بالإضافة إلى مبادرات تحفيز الاقتصاد ودعم القطاع الخاص، بالإضافة إلى ضخ سيولة لدى القطاع المصرفي لتمكينه من دعم القطاع الخاص، ساهمت في العودة السريعة للاقتصاد وحالة التعافي في النصف الثاني من عام 2021 ونما الناتج المحلي الإجمالي كما هو متوقع بنسبة 2.6 في المائة.
– الدول النامية
ومن ناحية أخرى، تسببت اضطرابات سلاسل الإمداد والتوريد العالمية وانخفاض قيمة العملة في المكسيك في زيادة التضخم، ورغم استجابة البنك المركزي برفع أسعار الفائدة، فإنّ الحكومة قد تعجز عن الاستجابة في حال استمرار الاضطرابات التجارية العالمية.
وفيما يتوقع في نيجيريا أن يدعم ارتفاع أسعار النفط والتوسع المالي الانتعاش بشكل معتدل، تعدّ معدلات النمو المرتفعة والمستدامة طويلة الأجل بعيدة المنال في أفريقيا الجنوبية بشكل عام، حيث سيؤدي التأخر في اللقاح إلى الحد من قدرة الاقتصاد على الوصول إلى طاقته الكاملة.
وهناك استثناءات بالطبع لكل شيء، فربما كانت الصين أول دولة متأثرة بالجائحة إلا أنها أيضاً من أوائل المتعافين منها، ونستطيع أن نشهد اليوم على محركات التعافي الاقتصادي في الصين والمتعلقة تحديداً بالإنتاج والتصنيع وعمليات التصدير، إذ أعادت النمو للاقتصاد بل ودفعته لمستويات ما قبل الجائحة، ورغم هذا لا تعدّ القوى الاقتصادية هذه منيعة ضد التأثر بعدم الاستقرار الاقتصادي الذي يهيمن اليوم على العالم بأكمله.
– المخاطر العالمية
وتتجه التوقعات العالمية للنمو إلى تحقيق معدلات نمو مساوية لنمو قبل الجائحة، وقد دفعت هذه التوقعات حراكاً جيداً من خلال التوظيف والشراكات وتوقيع الاتفاقيات والاستثمارات التوسعية وصفقات الاندماج والاستحواذ، وعلى صعيد ملف المخاطر ظهرت مجموعة من المخاطر المختلفة وكان في مقدمتها التغير المناخي ومخاطر تأثر سلاسل الإمداد والتوريد والمخاطر المرتبطة بالتوظيف وعدم تكافؤ الفرص والمخاطر المتعلقة بالضريبة، بالإضافة لبروز مخاطر التقنيات والأمن السيبراني والتقنيات المغيّرة بشكل خاص بسبب القفزة السريعة في الاعتماد عليها إثر الجائحة.
– المخاطر المتعلقة بالتقنيات والأمن السيبراني
وأدى الاعتماد المتسارع والمفاجئ على التقنيات لظهور مجموعة جديدة من المخاطر التي لم تكن جميع الشركات والمؤسسات وحتى بعض القطاعات جاهزة لها، وأصبح من الضروري وضع استراتيجيات للأمن السيبراني لحماية الأعمال وتمكينها من العمل والاستمرار عن بعد، وفي الوقت ذاته ظهرت مجموعة من الفرص الاستثمارية في القطاع الرقمي وفي التقنيات الجديدة، بل وامتدت لضرورة الاستثمار في تدريب القوى البشرية العاملة على التقنيات الجديدة.
وتتأثر التقنيات بالبنية التحتية على مستوى الدول وبحجم الاستثمارات الممكنة في التقنيات الجديدة، خاصة أن آثارها تظهر على المدى الطويل، وتزداد المخاطر إلحاحاً كون تبني التقنيات بشكل متسارع قد يؤدي إلى تعطيل أساليب العمل القائمة لفترات طويلة بشكل مفاجئ وتتحدى نماذج العمل السابقة، وإن لم تمتلك المؤسسات والقطاعات المرونة الكافية مع الدعم الحكومي المناسب فإنها قد تسبب تأخراً في التعافي الاقتصادي أو قد يؤدي ذلك لخروجها من الأسواق وخسارتها، ولذا ظهرت الحاجة لعقد شراكات محلية وعالمية أيضاً والعمل على وضع استراتيجيات للأمن السيبراني والمرونة السيبرانية أيضاً لتجاوز هذه المخاطر وتحويلها إلى فرص لتحقيق التعافي والنمو كل ذلك دون أن نغفل التكلفة العالية للتقنية والحاجة إلى التطوير والتحسين المستمر لها.
– مخاطر المناخ
تأتي المخاطر المتعلقة بالمناخ في مقدمة الأولويات لدى الدول، إذ تلقى اهتماماً خاصاً بعد لقاء قادة العالم في «غلاسكو» – COP26، ومع وجود إطار زمني لجهود تقليل الانبعاثات الكربونية والوصول إلى الحياد الصفري في عام 2050، فإن الإطار الزمني المحدد لاحتواء الحد الأقصى من الانبعاثات الكربونية المسموح بها للحد من الاحتباس الحراري يقترب من نهايته بسرعة، فيما يتسارع الاحتباس الحراري باستمرار وبمعدل أكثر من الضعف منذ عام 1981، وحتى لو التزم العالم بأكمله إلا أنّ التوقعات لا تزال خطيرة جداً ومن المتوقع أن تتزايد الأضرار المادية والاقتصادية في جميع أنحاء العالم.
وتسبب ارتفاع درجات الحرارة عالمياً زيادة في الكوارث الطبيعية المرتبطة بالطقس، وعلى سبيل المثال، وفقاً لمنظمة الأرصاد الجوية العالمية تم الإبلاغ عن أكثر من 11 ألف كارثة على مستوى العالم خلال فترة الخمسين عاماً الماضيين، مع أكثر من مليوني حالة وفاة و3.6 تريليون دولار من الخسائر التراكمية. وتمثل مخاطر الطقس والمناخ والمياه 50 في المائة من جميع الكوارث، و45 في المائة من جميع الوفيات المبلغ عنها و74 في المائة من جميع الخسائر الاقتصادية أيضاً.
وفي عام 2020 وحده، بلغت الخسائر العالمية الناجمة عن الكوارث الطبيعية 210 مليارات دولار أميركي. ووقعت هذه الكوارث عبر القارات المختلفة وشملت الأضرار التي سببتها الأعاصير وحرائق الغابات والفيضانات والجفاف. وسجلت التكاليف الاقتصادية في بعض الحالات بمليارات الدولارات الأميركية، ومن ناحية الخسائر الاقتصادية المتكبدة، لوحظ تباين واضح بين تأثر الأسواق الكبرى والأسواق الناشئة التي تمثل أكبر عدد من الخسائر (خاصة مع غياب التأمين والحماية عليها).
ووفقاً لتقرير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO)، فقد وقعت 71 في المائة من الكوارث المسجلة في الاقتصادات النامية بالتحديد، ويتوقع صندوق النقد الدولي، أنّ التغير المناخي سيؤثر على الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة تصل 13 في المائة (نسبياً للسياسات الحالية) وستخفض من الناتج المحلي بشكل فعلي بنسبة أعلى من 7 في المائة بحلول عام 2100.
ويعد استمرار الكوارث الطبيعية معيقاً أساسياً للنمو الاقتصادي في المستقبل حيث يصبح استبدال رأس المال المادي برأس المال الطبيعي مكلفاً بشكل متزايد، ولن يكون التحول إلى الطاقة المتجددة والصديقة للبيئة بالضرورة سهلاً وسلساً.
لقد أصبح اتخاذ خطوات للحد من التغيرات المناخية ومواجهتها في غاية الأهمية الآن، خاصة بسبب حجم التأثير على النمو الاقتصادي والتهديد على الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي العالمي في المستقبل.
من ناحيتها، اتخذت السعودية خطوات جادة في التعامل مع ملف التغير المناخي والاحتباس الحراري من خلال مبادرات الشرق الأوسط الأخضر والسعودية الخضراء وضخ العديد من الاستثمارات من خلال أرامكو السعودية في مجال الطاقة المتجددة والنظيفة حيث سيكون التأثير الفعلي دوماً بالأفعال وليس بالأقوال.
الشرق الاوسط