قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية في تقرير لمراسلها من أفغانستان سوني إنجل راسموسن إنه قبل عقدين من الزمن، ساعدت إيران الولايات المتحدة في الإطاحة بنظام “طالبان”؛ لإزالة ما اعتبرته آنذاك تهديدا لأمنها القومي وللشيعة في أفغانستان. لكن الآن، بعد 4 أشهر من استيلاء “طالبان” على السلطة في كابل، تكافح كل من إيران وأفغانستان في ظل العقوبات الأمريكية التعجيزية؛ حيث أصبح البلدان في مأزق قد يدفعهما إلى تنحية الخلافات الأيديولوجية والسياسية الطويلة، بينما يسعيان إلى ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الأمريكية.
وينقل التقرير عن غلام نورزاي، وهو رجل أعمال من مقاطعة نمروز، وهي مركز تجاري في المنطقة الحدودية الجنوبية الغربية لأفغانستان، والذي يستورد الوقود ومواد البناء من إيران قوله: “لقد اقترب البلدان من بعضهما بالفعل؛ إذ لم يعد لديهم خيار آخر”.
وبحسب التقرير تغلف العلاقات بين النظام الثيوقراطي الشيعي في إيران وحركة “طالبان” السنية بعد عقود من عدم الثقة والصراع المباشر. ففي عام 1998، قتلت “طالبان” 10 من موظفي القنصلية الإيرانية بعد استيلائها على مدينة مزار الشريف الشمالية. وكانت الدولتان على شفا حرب بسبب ذلك.
ورغم التقارب إلا أن هناك توترات كبيرة بين “طالبان” وإيران؛ حيث يتقاتل الجانبان على موارد المياه الشحيحة بشكل متزايد، كما تمثل الميليشيات التي تعمل في أفغانستان والمدعومة من إيران تهديدا لـ”طالبان”، ناهيك عن قلق إيران من عبور تجار المخدرات الأفغان إلى أراضيها.
ويشير الكاتب إلى تغير الوضع في الوقت الحالي بعض الشيء؛ حيث باتت المتاجر الكبرى في أفغانستان تبيع المنتجات الإيرانية بعدما كانت معتادة على بيع المنتجات الأوروبية والتركية.
ويبيع سوبر ماركت “الزيتون” في هرات بأفغانستان الآن المنتجات الإيرانية، بينما كان معتادا على بيع المنتجات الأوروبية والتركية.
وتتشارك أفغانستان وإيران في حدود طولها 600 ميل تقريبا، وهما شريكان حيويان. وفي السنوات الأخيرة، حيث كانت أفغانستان تشكل أحد المصادر القليلة للعملة الأجنبية بالنسبة لإيران؛ أدت العقوبات الأمريكية إلى عزل طهران عن النظام المصرفي العالمي. وتم تطبيق عقوبات مماثلة على أفغانستان بعد سيطرة “طالبان”، ما أدى إلى انهيار النظام المصرفي.
وينوه التقرير أنه على الرغم من دعم إيران لـ”التحالف الشمالي” المناهض لـ”طالبان” في تسعينات القرن الماضي، وتعاونها مع واشنطن في الإطاحة بنظام “طالبان” عام 2001، لكنها اتخذت موقفا مغايرا في السنوات التالية، بعد أن صنف الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” طهران باعتبارها جزءا من “محور الشر”.
وعلى مدى العقد الماضي، حافظت إيران على علاقات وثيقة مع الحكومة الأفغانية، بينما رعت أيضا العلاقات مع “طالبان” ودعمت هدفها المتمثل في طرد القوات الأمريكية من المنطقة. وبخلاف الدول الغربية، لم تغلق إيران بعثاتها الدبلوماسية في أفغانستان بعد استيلاء “طالبان” على السلطة هناك، لكنها في الوقت نفسه منحت حق اللجوء لقادة الجماعات المسلحة المناهضين للحركة مثل “إسماعيل خان”. ولم تعترف أي دولة حتى الآن بـ”طالبان” بوصفها حكومة شرعية لأفغانستان.
ويعتقد العديد من المسؤولين الإيرانيين أن “طالبان” تغيرت بالفعل. وقال دياكو حسيني، المحلل السياسي في طهران والمستشار السابق لمكتب الرئيس الإيراني: “إنهم (قادة طالبان) يتمتعون بخبرة اليوم أكثر من عقد مضى، والآن ليس لديهم خيار سوى التعايش مع جيرانهم بما في ذلك إيران. فقط من خلال التعاون وإبقاء النوافذ الدبلوماسية مفتوحة، ستكون إيران قادرة على حماية مصالحها الحيوية فيما يتعلق بتهريب المخدرات والإرهاب والهجرة”.
ويقول مسؤولو “طالبان” إنهم تجاوزوا خلافاتهم السابقة. وقال نور أحمد إسلامجار، الذي عينته “طالبان” حاكما على مقاطعة هرات المتاخمة لإيران: “ليس لدينا مشكلة مع إيران أو أي دولة أخرى، بل نريد زيادة التجارة مع إيران وباكستان ودول آسيا الوسطى والعالم بأسره”.
وتتضح طبيعة العلاقات الواسعة بين أفغانستان وإيران جليا في مقاطعة نيمروز؛ حيث ينقل المهربون البضائع من البطاطس إلى الأسمدة والوقود عبر الصحراء من إيران إلى أفغانستان، وتثير شاحناتهم “البيك أب” سحابات من الغبار. وفي طريق العودة، تحمل المركبات المخدرات -حيث تُعتبر أفغانستان أكبر مصدر للهيروين والأفيون في العالم- أو اللاجئين الذين فروا بأعداد كبيرة خوفا من حكم “طالبان”.
وتعبر العشرات من شاحنات الوقود كل يوم “جسر الحرير”، الذي يربط إيران بنمروز، إلى جانب حشود من اللاجئين الذين تقوم إيران بإعادتهم إلى أفغانستان بأعداد قياسية.
وفي شوارع مدينة زرنج، عاصمة نمروز، يبيع الباعة الجائلون البهارات والفاكهة الإيرانية، ويقبلون الريال الإيراني في المعاملات. كما أن مصابيح الشوارع التي تضيء زرنج، والتي تشبه بقعة من الضوء وسط الصحراء المظلمة، تعمل بالكهرباء المتدفقة من الشبكة الإيرانية.
وفي هرات بأفغانستان تتجه صادرات الفواكه المجففة إلى دبي عبر إيران.
وقال نائب الغرفة التجارية في هرات “أحمد سعيد قاسميان” إنه في الفترة بين أغسطس/آب الماضي وديسمبر/كانون الأول 2021، استوردت إيران سلعا بقيمة 45 مليون دولار عبر غرب أفغانستان، بزيادة قدرها 20% عن الفترة ذاتها من العام الماضي، فيما انكمش الاقتصاد الأفغاني بنحو 40% خلال الفترة نفسها، وفقا للأمم المتحدة.
وأضاف قاسميان أنه في وقت أدت فيه العقوبات الأمريكية إلى تقليل حجم التجارة مع دول في أوروبا والخليج وإحداث شلل في النظام المصرفي بأفغانستان، تدخل رجال أعمال إيرانيون لملء الفراغ.
وقال سعيد أمين شاه حسيني، وهو مدير المبيعات في سوبر ماركت “الزيتون” الفاخر في هرات، إنه استبدل 60% إلى 65% من العلامات التجارية للمحل التي كانت تركية أو أوروبية بمنتجات إيرانية. وأضاف: “سنصبح معتمدين على إيران بنسبة 100% إذا استمر هذا الوضع”.
وتحاول “طالبان” تقديم صورة لاستعادة الأمان والحالة الطبيعية في البلاد منذ السيطرة على السلطة فيها. لكن وفقا لتقرير أعده “سون راسموسن”، مراسل صحيفة “وول ستريت جورنال” في كابل، أصبحت العقوبات القاسية والعنف وقمع الحريات الأساسية حقيقة واقعة.
وعلى مدى العقد الماضي، أنشأت إيران منطقة عازلة في غرب أفغانستان، بشكل جزئي لحماية حدودها من تنظيم “الدولة”، عبر دعم الجماعات المسلحة المحلية بما في ذلك قادة “طالبان”. وبعد تولي “طالبان” السلطة في أغسطس/آب 2021، وصف الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” الهزيمة العسكرية الأمريكية في أفغانستان بأنها “فرصة لاستعادة الحياة والأمن والسلام الدائم”. ويرى خبراء أن طهران تتوقع الآن نيل مكاسب في أفغانستان تتمثل في مزيد من النفوذ السياسي والاقتصادي.
وينقل التقرير عن كولن كلارك، الباحث في مركز “صوفان” للأبحاث، ومقره نيويورك قوله: “لقد استثمر الإيرانيون في هذه العلاقة، والآن حان الوقت للحصول على المقابل”.
وأحد حلفاء إيران في أفغانستان هو مليشيا شيعية تسمى “لواء فاطميون”. فقد جند الحرس الثوري الإسلامي الإيراني آلاف المقاتلين الأفغان الشباب في “لواء فاطميون” للقتال إلى جانب “بشار الأسد” في سوريا. ومع انتهاء الحرب السورية، عاد العديد من مقاتلي “فاطميون” المتمرسين -الذين يعارضون “طالبان” بشدة- إلى أفغانستان أو إيران.
وفي حي دشتي بارشي الذي يسيطر عليه الشيعة في كابل، قُتل العديد من أعضاء “طالبان” في اغتيالات ليلية خلال الأسابيع الأخيرة. وتقول “طالبان” رسميا إن عمليات القتل كانت بسبب نزاعات خاصة، لكن أعضاء على دراية بمخابرات “طالبان” يقولون إنهم يعتقدون أن القتلة أعضاء في “فاطميون”.
وقال كلارك: “إيران ليست متحمسة للدخول في قتال بأفغانستان”.
وأضاف: “الإيرانيون مقتنعون أنهم لن يكونوا مختلفين عن أي بلد آخر تدخل في أفغانستان. ولديهم بعض الوكلاء مثل فاطميون وأمراء الحرب الأفغان الذين يمكنهم تنشيطهم، إنها ورقة في جعبتهم يمكنهم اللعب بها”.
وفي اشتباكات أخرى، اندلعت معركة بالأسلحة النارية بين شرطة الحدود الإيرانية ومقاتلي “طالبان” في أوائل ديسمبر/كانون الأول؛ بسبب ترسيم حدود متنازع عليه في نمروز. وصور مقاتلو “طالبان” أنفسهم وهم يضحكون ويطلقون قذائف الهاون باتجاه الشرطة الإيرانية على الجانب الآخر من الحدود. وسرعان ما قلل مسؤولون إيرانيون و”طالبان” من خطوة الاشتباك باعتباره سوء تفاهم.
وقال إسلامجار، حاكم هيرات: “لقد كان عملا محليا، وليس شيئا يرغب فيه القادة، زعماؤنا وقادة الحكومة الإيرانية لا يريدون مواجهة بعضهم البعض عسكريا”.
وهناك صراع يمكن أن يكون أكثر خطورة يختمر في الصحراء؛ حيث تخوض فيه إيران وأفغانستان نزاعا داميا لعقود على موارد المياه.
وفي تقريره الميداني يروي الكاتب أنه “وهو جالس في سيارة فورد رينجر ملصق عليها شارات الشرطة الوطنية السابقة التي كانت تمولها الولايات المتحدة، حدق قائد “طالبان”، “همت آغا”، في المياه الزرقاء لسد “كمال خان” في الصحراء حيث تلتقي أفغانستان بإيران”.
وقال “أغا”، قائد مشروع السد، الذي يجري بناؤه على نهر هلمند: “لقد أغلقنا المياه المتوجهة لإيران؛ لذلك نتوقع منهم أن يفعلوا شيئا ما”.
وبمجرد الانتهاء من تشييده، من المفترض أن يروي سد “كمال خان” 175 ألف فدان من الأراضي الزراعية، ويساهم في توليد 9 ميجاوات من الكهرباء. كما أنه سيحول مسار النهر الذي كان يصب في إيران.
ومنذ سنوات، تتهم إيران أفغانستان بالاستيلاء على أكثر من حصتها العادلة بموجب معاهدة المياه المبرمة عام 1973 بين البلدين، وتجفيف الأراضي الرطبة على الجانب الإيراني من الحدود.
فيما اتهمت الحكومة الأفغانية السابقة إيران بتسليح متمردي “طالبان” لتعطيل مشروع السد، الذي نشرت الحركة حاليا ألف مقاتل به وعند نقاط التفتيش المنتشرة حوله في الصحراء لحمايته.
ويختم الكاتب بالقول إن كلا البلدين بحاجة إلى كل قطرة مياه يمكنه الحصول عليها؛ إذ تواجه أفغانستان أسوأ موجة جفاف منذ 4 عقود ومجاعة وشيكة، كما واجهت الحكومة الإيرانية هذا العام احتجاجات على نقص المياه الناجم عن تغير المناخ وسوء إدارة الحكومة.
وقال “أغا” بينما كانت الطيور تحلق على ارتفاع منخفض فوق بحيرة السد وفوق قطيع من الجمال يرتوي من المياه الضحلة: “نحن بحاجة إلى كل الماء لأنفسنا، وإذا لم نؤمن السد، ستهاجم إيران”.
القدس العربي