التعبئة الفعالة للأوروبيين التي اضطلعت بها إدارة بايدن لرفع الثمن الذي ستدفعه روسيا بعد غزوها لأوكرانيا هي تذكير بأن الولايات المتحدة قادرة على قيادة الآخرين عندما تطرأ تحديات أساسية للقواعد التي تريدها من أجل توجيه السلوك الدولي. وفي الواقع، يمكن تفهم سبب فرض واشنطن قيود معينة على ما تقدمه لأوكرانيا – فليس من الحكمة حشر شخص يملك 6.000 رأس نووي في الزاوية. ولكنه أيضا تذكير بأن الولايات المتحدة تبقى حذرة للغاية عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة -وذلك، بلا شك، لأسباب وجيهة. وقد جّهت موسكو نداء تنبيه للطريقة التي تفسّر بها الجهات الفاعلة مثل إيران التقاعس المعتاد الذي تظهره الولايات المتحدة.
* * *
من الصعب المبالغة في تقدير أخطاء فلاديمير بوتين في أوكرانيا. فمن الاعتقاد بأن قواته كانت أكثر قدرة بشكل كبير مما هي عليه في الواقع، إلى تصديق أساطيره بأن أوكرانيا ليست دولة حقيقية، فإن مفاهيمه الخاطئة ساهمت في إقناعه بشن حرب كارثية.
وفي حين أن مفاهيمه الخاطئة عن أوكرانيا عميقة، إلا أنه من المفارقات أن سوء تقديره للغرب لا ينبغي أن يكون مستغربا إلى هذا الحد. هل حقا أعطته ألمانيا وغيرها سببا للاعتقاد بأنه سيكون هناك رد فعل سلبي إذا ما غزا أوكرانيا؟ وبالمثل، هل كانت الإجراءات الأميركية بمرور الوقت موثوقة بما فيه الكفاية لإقناعه بتحذيرات إدارة بايدن بشأن الثمن الذي ستدفعه روسيا إذا قام بغزوها؟
فلنتأمل حالة ألمانيا. فقد ألقى الغموض بظلاله على مصير خط أنابيب الغاز الطبيعي “نورد ستريم 2” إلى حين بدء الغزو. وعلاوة على ذلك، ظلت ألمانيا وغيرها من البلدان في أوروبا لسنوات غير راغبة في تحديث قواتها أو تحقيق هدف منظمة حلف شمال الأطلسي، “الناتو”، المتمثل في إنفاق الأعضاء 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فلننظر إلى حصيلة الإنجازات: بدأ بوتين يُظهر أنه لن يحترم الوحدة الإقليمية وحرمة الحدود مع غزو جورجيا في العام 2008، ومع فصل أوسيتيا وأبخازيا عنها -وكان الرد الأميركي محدوداً للغاية.
وكذلك كان رد الولايات المتحدة وأوروبا على الاستيلاء على منطقة شبه جزيرة القرم الأوكرانية في العام 2014 -نعم، لقد طبقت واشنطن عقوبات محدودة، ولكن كان لها تأثير ضئيل على الاقتصاد الروسي. كما أنّ التورط الروسي الواضح في القتال في شرق أوكرانيا، حيث نفى بوتين هذا التدخل العسكري الروسي ثم اعترف لاحقاً بأن الجنود الروس ذهبوا إلى هناك لقضاء عطلاتهم، قوبل مرة أخرى برد فعل ضئيل. فقد اتخذ الرئيس أوباما قرارا بعدم تقديم مساعدة فتاكة لأوكرانيا، معتقدا أن ذلك سيكون استفزازيا وسيؤدي إلى تصعيد روسي للصراع.
وعندما أرسلت روسيا قوات إلى سورية في العام 2015 لإنقاذ نظام الأسد، لم ترد الولايات المتحدة ولا أوروبا (على ما قام به)، مع اعتقاد الكثيرين أنه إذا أراد بوتين الغرق في “مستنقع” سورية، فلندعه يدفع الثمن. ولكنّ بوتين غيّر موازين القوى هناك بتكلفة زهيدة ومن دون أي مراعاة لقتل المدنيين -في الواقع، استهدف القصف المتعمّد للمدنيين إرهاب السكان المحليين وإخلاء المناطق من السكان. (وفقاً لتحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، أعطت الأمم المتحدة الروس إحداثيات عن مواقع المستشفيات والعيادات، ولكنهم استخدموا تلك المعلومات لضرب تلك المناطق بدلاً من تجنّب قصفها).
ومن المؤكد أن عدم التصرف وفقاً لـ”الخط الأحمر” الذي وضعه أوباما في ذلك الوقت يُشكّل مثالاً آخر على تردد الولايات المتحدة، ولكن هل لذلك أهمية أكبر في حسابات بوتين من واقع أنه نكث بكل وعد قطعه مع إدارتي أوباما وترامب حول سورية؟ هنا لا بد من التنويه إلى أن ترامب، في لقاءاته مع بوتين في العام 2017، أعلن مرتين عن التوصل إلى تفاهمات، أولا بشأن وقف إطلاق النار، ثم لاحقاً، بشأن إنشاء مناطق خفض التصعيد في سورية -وهو ما لم يلتزم به الروس. وكما هو الحال مع إدارة أوباما، لم تتم محاسبتهم.
وبخلاف الرئيس أوباما، ربما وافق الرئيس ترامب على إرسال معدات فتّاكة لأوكرانيا، لكنّه لم يسمح بنشر صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات. والأسوأ من ذلك، أثار ترامب تساؤلات حول “المادة 5” من ميثاق حلف “الناتو” (التي تنص على أن الهجوم على أي عضو من أعضائها يعتبر هجوماً على الجميع)، ووبخ أعضاء “الناتو” باستمرار، وأوجد انطباعاً بأنه قد ينسحب من الحلف في فترة ولايته الثانية. وكأن هذا لم يكن كافياً، فإنّ الانسحاب الفوضوي لإدارة بايدن من أفغانستان قد أكد على ما يبدو أن الولايات المتحدة كانت تتراجع ولا تتطلع إلى التصرف وفقا لالتزاماتها في الخارج -وبطبيعة الحال، لم يكن لواشنطن أي التزام أمني تجاه أوكرانيا.
ولكن، لا يبرر أي من هذا حرب بوتين غير المعقولة على شعب أوكرانيا. ولكنّه يذكرنا بأنه رأى نمطاً من الرد المحدود أو المعدوم على جميع تصرّفاته التي تحدّت المعايير الدولية الأساسية.
إن التعبئة الفعالة للأوروبيين التي اضطلعت بها إدارة بايدن لرفع الثمن الذي ستدفّعه روسيا بعد غزوها لأوكرانيا هي تذكير بأن الولايات المتحدة قادرة على قيادة الآخرين عندما تطرأ تحديات أساسية للقواعد التي تريدها من أجل توجيه السلوك الدولي. وفي الواقع، يمكن تفهّم سبب فرض واشنطن قيود معيّنة على ما تقدمه لأوكرانيا؛ فليس من الحكمة حشر شخص يملك 6.000 رأس نووي في الزاوية. ولكنه أيضاً تذكير بأن الولايات المتحدة تبقى حذرة للغاية عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة -وذلك، بلا شك، لأسباب وجيهة.
مع ذلك، إذا أرادت واشنطن أن يعرف الآخرون المستعدون لتحدي المعايير الدولية أو الإقليمية أنهم سيدفعون ثمناً ذا أهمية لهم، فعليهم أن يعلموا أنهم يخاطرون بإثارة القوة الأميركية العاتية ضدهم. وفي الشرق الأوسط -حيث كانت إيران تهاجم بصورة مباشرة ومن خلال وكلائها القواعد التي يتواجد فيها الأميركيون في العراق وسورية، وتضرب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وتروّج لضرب إسرائيل -كانت ردود واشنطن محدودة للغاية، بينما تُظهر إيران القليل من الخوف من الولايات المتحدة. ولتغيير ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تقابلهم بالمثل عندما تتلقى ضربة ما -وتفرض تكلفة أعلى من تلك التي لحقت بها- وأن تعمل مع شركائها بنشاط لشن هجمات مضادة عليهم.
لم يكن الاستفزاز هو ما دفع بوتين إلى غزو أوكرانيا، بل قراءته للضعف الأوكراني والغربي. وعلى غرار بوتين، يبحث آخرون -سواء كان الرئيس الصيني شي جين بينغ، أو زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، أو المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي- عن أي علامات تشير إلى قوة الولايات المتحدة وليس ضعفها. فالأولى تجعلهم حذرين، والثانية، عدائيين.
لقد وجه بوتين للولايات المتحدة نداء صحوة، ومن المهم الإصغاء إليه.
*دينس روس هو مستشار وزميل “ويليام ديفيدسون” المتميز في معهد واشنطن والمساعد الخاص السابق للرئيس أوباما. كُتب هذا المقال تحت رعاية “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر” التابع للمعهد حول “منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط”. الترجمة العربية لمعهد واشنطن.
الغد