مر أمس الجمعة 100 يوم على الغزو الروسي لأوكرانيا وقدّم طرفا الصراع في الحرب حصيلة هذه المدة الفارقة بطريقتين متناقضتين.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي مهّد للحرب بخطاب غاضب يعيد كتابة تاريخ أوكرانيا ويمهد لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية وبإعلان هدفين كبيرين للهجوم: نزع سلاح أوكرانيا و«اجتثاث قيادتها النازية»، تراجع خطوة رمزية إلى الخلف وترك الناطق باسم الرئاسة، دميتري بيسكوف يتحدث عن نتائج «العملية العسكرية الخاصة» بلهجة «متواضعة» قائلا إن الهجوم «حقق بعض أهدافه» وأنه سيتواصل لتحقيق كل تلك الأهداف. أما الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي فاختار الظهور بنفسه بمقطع فيديو نشر على موقع تواصل اجتماعي ليقول إن بلاده ستنتصر.
هبوط درجة المتحدث الروسي، من بوتين إلى بيسكوف، وتغيير اللهجة العالية، خلال مئة يوم، من «اجتثاث النازية» و«نزع سلاح أوكرانيا» إلى «تحقيق بعض الأهداف»، لا يعني بالضرورة إذعانا روسيا للوقائع الثقيلة التي غيّرت مجرى الحرب.
لكن إذا احتسبنا الفارق بين التصريحات التي توالت مع بداية الهجوم (وبينها التهديد بالحرب النووية وإنذار فنلندا والسويد ونشر المقاتلات الحربية قرب اليابان)، والتصريحات الأخيرة الآنفة (مضافا إليها تصريحات الاهتمام بأزمة الغذاء العالمي، واتصال بوتين برئيس السنغال، واجتماعات وزير الخارجية الروسي في الرياض الخ) فسنستنتج أن الفارق بين التصريحات يعكس إدراكا متعاظما من قبل قادة روسيا أن حسابات الحقل (الأهداف) لم تتطابق مع حسابات البيدر (النتائج).
لكن ما الذي يفسّر اللهجة المتفائلة للرئيس الأوكراني، في الوقت الذي أكّد فيه قبل أيام أن روسيا سيطرت على خمس مساحة بلاده، وأن موسكو ما زالت تتقدم، منذ سقوط مدينة ماريوبول وأسر الآلاف من الجنود المدافعين عنها، بحيث نجحت في السيطرة على مدن جديدة بينها ليمان وسيفيرودونتسك وتقترب من إنهاء الجيوب المقاومة في لوغانسك؟
لقد قامت الخطة الروسية، نظريا، على احتلال أوكرانيا وتنصيب قيادة سياسية موالية للكرملين، وكان تحقيق هذين الهدفين، بسرعة، كفيلا بتغيير موازين القوى في العالم ودخول روسيا مع الغرب في مفاوضات من موقع قويّ جدا يتحكم بحاجة أوروبا إلى النفط والغاز، وحاجة العالم، إلى الحبوب.
كانت التغيرات العسكرية والسياسية المتوقعة، وامتلاك ثروات هائلة يحتاج العالم لها هما ورقتا الربح بالنسبة لموسكو، لكن فشل تلك الاستراتيجية أدى إلى انقلاب الأدوار بشكل جذريّ، فبدلا من «تحييد» أوكرانيا، ومنع انضمامها إلى الحلف الأطلسي، تحوّلت أوكرانيا، عمليا، إلى الأداة التي يحارب الناتو بها موسكو، وأدت حزمات العقوبات الكبيرة التي أقرها الحلف الغربي إلى خسارة استراتيجية هائلة لروسيا بإسقاط 90٪ من صادراتها النفطية إلى أوروبا، بحيث تحوّل النفط الروسي إلى سلاح بيد أوروبا وليس العكس. على مستوى الجغرافيا السياسية، فإن إعلان فنلندا (التي تملك حدودا بطول 1300 كلم مع روسيا) والسويد طلبهما الانضمام إلى حلف الأطلسي، سيقلب المشهد الأمني الأوروبي ـ الروسيّ، وبدلا من إخراج الجغرافيا الأوكرانية من المعادلة فإن حدود السويد وفنلندا ستجعل كافة الجبهات الأوروبية متحدة عسكريا ضد موسكو، وإغلاق مجال التأثير الروسي في دول البلطيق نهائيا.
النقطة الاستراتيجية الكبرى التي لم تحتسبها القيادة الروسية هي أن اجتياح أوكرانيا ليس مسألة عسكرية بحت، وأن هناك عوامل أهم بكثير، ومنها أن المواجهة لن تكون مع القيادة والجيش الأوكرانيين فحسب، بل مع المنظومة السياسية ـ العسكرية ـ الاقتصادية الغربية، التي تضامنت، في مجملها، واتحدت ضد روسيا.
عامل مهم آخر، لا يحتسبه قادة الجيوش عادة، كان إرادة الأوكرانيين أنفسهم، الذين رفضوا احتلال بلادهم وقاوموا الغزو، وبتحديهم لسردية بوتين حول أوكرانيا، غيّروا عمليا المعادلة العالمية.
القدس العربي