“هذه أرضنا…أرضنا المقدسة!” هكذا وصف النائب في البرلمان الروسي سيمون باغداساروف سوريا في معرض البرنامج الحواري التلفزيوني الرائد “ليلة مع فلاديمير سولوفييف” على قناة روسيا 1 الحكومية في بداية تشرين الأول/أكتوبر. وتابع باغداساروف: “أتتنا الحضارة من هناك بالذات… فلولا سوريا، لما كانت روسيا اليوم”، موضحاً أن تاريخ روسيا يعود إلى زمن وصول الكهنة السوريين “وليس اليونانيين أو الله يعلم مَن” إليها من أنطاكية.
وفي الخطوات التصعيدية التي سبقت تدخل روسيا في سوريا في 30 أيلول/سبتمبر، أشارت استطلاعات الرأي العام إلى أن معظم الروس يعارضون هذا التدخل العسكري. فآلة الدعاية التابعة للكرملين واجهت صعوبات نوعاً ما في إيجاد الرسالة المناسبة حول سوريا. وقد استغرق الأمر عدة أيام لكي تجيب وزارة الدفاع الروسية على أسئلة الصحفيين، وعندما قامت بذلك، ارتأت أحياناً بكل بساطة عدم التعليق. وبدا أن المسؤولين الروس رفيعي المستوى كانوا يفتقرون إلى فهم واضح لنوايا الحكومة.
فالمتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أفاد بأن معظم عناصر «الجيش السوري الحر» المدعوم من الغرب قد انضموا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»، في حين قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن «الجيش السوري الحر» ليس تنظيماً إرهابياً ويجب أن يشكل جزءاً من أي حل سياسي.
ولكن الرسالة سرعان ما ظهرت: فقد كانت سوريا، البلد الجميل والمسالم والمتسامح، تنعم بالازدهار إلى أن وصل إليها “الإرهابيون”، مع أفكارهم “الغربية” عن “الحرية”، ومزقوها إرباً إرباً في غضون بضعة أشهر. واتضح أن سوريا مرتبطة بشكل جوهري بنشأة روسيا بحد ذاتها، كما ذكر باغداساروف. وفي غضون ذلك، يُعتبر الغرب مسؤولاً عن بروز الإرهاب في سوريا وهو يواصل دعم الجماعات الإرهابية في صراع جيوسياسي يهدف إلى تقويض روسيا. وانطلاقاً من هنا، يتصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجهود الفعلية الرامية إلى استئصال الإرهاب، بالرغم من عدم تقديم تعريف واضح عن الإرهاب. وسارعت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي يستخدمها الكرملين كأداة للقوة الناعمة، إلى دعم الكرملين. هذا وأعلن رئيس دائرة الشؤون العامة في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الأب فسيفولود تشابلن ما يلي: “إن المعركة ضد الإرهاب هي حرب معنوية إذا ما صح القول، وهي حرب مقدسة، وتُعتبر بلادنا اليوم الدولة الأنشط في العالم على الأرجح في مقاومتها للإرهاب”.
وقد حلت أخبار سوريا بسرعة محل أخبار أوكرانيا. فقد أصبحت بمثابة مخدِّر جديد، أو كما ورد على لسان المحلل السياسي أندري بيونتكوفسكي، “مخدّر إمبراطوري” يسمح للشعب الروسي بـ “نسيان الإحراج [الذي انتابه بفِعْل] التجربة الأوكرانية الفاشلة، وإعادة بث روح النصر المسكّرة التي طبعت الربيع الروسي عام 2014، والقضاء في الوقت نفسه على شعور الغرابة والانزعاج الذي بقي يراود الروس عندما قتلوا الأوكرانيين الشبيهين بهم”.
بيد، تختلف الرسالة المتعلقة بسوريا. فحول أوكرانيا، كانت الصور التي طغت على وسائل الإعلام مصممة لملامسة دافع إنساني لدى الروس بإنقاذ زملائهم من الاضطهاد الذي يمارسه “الفاشيون” برعاية الغرب. وبالتالي، كانت الأخبار تسلط الضوء على العنف وعلى الأشخاص المذعورين الذين يصرخون وهم يلوذون بالفرار.
وحول سوريا، فإن الصور عقيمة. فهي تذكّر المرء في بعض الأحيان بأفلام المغامرة أو ألعاب الفيديو المشوقة: فهناك طائرات تقلع وقنابل تسقط على المباني في الوقت الذي يناقش فيه المعلقون، على سبيل المثال، ما إذا كان الطقس في سوريا مؤاتياً للضربات الجوية. وتقدم وزارة الدفاع تقارير إخبارية منتظمة مع خرائط ملونة وتقارير عن مهام ناجحة. كما تُعرض مقابلات مع قوات الأسد التي تبدي امتنانها لروسيا على خلفية المساعدات التي تقدمها لها. والأهم من ذلك، تشير التقارير إلى أن الطيارين الروس في محافظة اللاذقية يحصلون على قسط كبير من الراحة ويطالعون الكتب ويتناولون وجبات دسمة في منشآت نظيفة في أوقات فراغهم.
إلا أن المناقشات حول سوريا لا تخلو من المشاعر. على سبيل المثال، تصف القصيدة الغنائية “سوريا، أختي، أخوك الروسي سينقذك” مقابلات مع سوريين تتطرق إلى وحشية “المتطرفين” المدعومين من الغرب. وهي تروج لفكرة أن كل من يحارب الأسد في سوريا هو وحش يمارس التعذيب والقتل بأفظع الطرق. كما أن صور الأشخاص الأبرياء، خصوصاً الأطفال وهم يتعرضون للتفجير، تُظهر العنف وإراقة الدماء، وتعزز الفكرة بأنه لا توجد بدائل أخرى للأسد وأنه هو المصدر الوحيد لفرض النظام وإحلال السلام.
ولكن فيما يتعلق بأعمال روسيا الفعلية في سوريا، يريد الكرملين أن يفهم الشعب الروسي بأن هذه الحملة غير مؤلمة وبعيدة. فسوريا ليست أوكرانيا، ومن الصعب تبرير التدخل في أرض بعيدة في الوقت الذي لم تتعرض فيه روسيا لأي اعتداءات مباشرة على أراضيها من قبل هذه الدولة. وبالتالي، يساهم الترويج لفكرة عدم تكبد روسيا تكاليف ملحوظة [في إقناع عامة الشعب بوجوب هذا التدخل].
ويقيناً، يبرز عامل مساعد آخر وهو أن العديد من الأفكار التي يروج لها الكرملين بشأن سوريا ليست جديدة تماماً. فالادعاءات بأن الغرب قد أنشأ تنظيم «الدولة الإسلامية» ونظم تظاهرات في ساحة “ميدان” في أوكرانيا واستخدمها كأدوات جيوسياسية، وبأن الولايات المتحدة تدعم المتطرفين المسلمين في سوريا، الذين يقتلون المسيحيين من أجل مساعدة الولايات المتحدة على بسط سيطرتها على الشرق الأوسط وتغيير شكل المنطقة كما يروق لها، تعود جميعها لعدة سنوات على الأقل. وينطبق الأمر نفسه على الإدعاء بأن مصلحة الغرب الوحيدة في سوريا تكمن في الإطاحة بحكومة الأسد الشرعية. إن وسائل الإعلام قد سلطت الضوء أيضاً منذ سنوات على الروابط الوثيقة بين سوريا، لا سيما عائلة الأسد، وروسيا. فعلى سبيل المثال، ركز أحد البرامج الحوارية على ابن عم بشار الأسد، سوار الأسد، وزوجاته الروسيات في باريس، من خلال عرض صور لـ سوار تظهره كأب حنون يحضن أولاده، وعائلته التي تنسب لنفسها على سبيل المزاح كنية “أسدوف” للتشديد على قربها من روسيا، وصور لنساء روسيات دخلن عالماً شبيهاً بقصص الخيال بعد أن خطفهن أمير عربي [على حصانه الأبيض].
وسرعان ما أحدثت الدعاية فرقاً على الأرض. ففي آواخر تشرين الأول/أكتوبر، أظهرت الاستفتاءات معدل نمو قياسي في الأصوات المؤيدة لبوتين نسبته 89.9 في المائة، وقد عزت الإجراءات التي اتخذها بوتين في سوريا كأحد أسباب هذه الزيادة، في حين لا تزال أقلية فقط تعارض التدخل الروسي في سوريا. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، إلى أي مدى يمكن الوثوق بنتائج هذه الاستفتاءات وإلى متى سيستمر هذا التأييد؟
أولاً، من الضروري عدم المبالغة في تزايد نسبة التأييد الإجمالية لبوتين، فهي زيادة بعدة نقاط مئوية فقط سُجلت قبل التدخل في سوريا. وعلى المدى القصير، كانت الدعاية فعالة. ولكن ليليا شيفتسوفا، وهي زميلة أقدم في مؤسسة بروكينغز، تحذر من أن نسبة التأييد للحزب الشيوعي كانت 99.9 في المائة قبل شهر من سقوط الاتحاد السوفييتي. فقد كتبت لي في رسالة إلكترونية: “هذه النسبة يجب أن تدفع السلطات إلى القلق عوضاً عن التهليل، إذ تدل على أن المجتمع قد توقف عن قول الحقيقة”. وقد يبدو بوتين واثقاً بنفسه، أو بالأحرى يشعر بثقة مفرطة، إلا أن هذه الثقة لا تزال هشة.
ومن غير المرجح أن تدوم نسبة التأييد المرتفعة. فكما كتبت شيفتسوفا: “لن يستمر أثر المخدرات سوى لوقت قصير جداً لأن الروس لا يفهمون كيفية ارتباط مصالحهم بهذه المنطقة البعيدة. فهذه النسبة والدعم الشعبي لن يدوما في المستقبل، وإلا، فلماذا تكبد الكرملين عناء نقل مغامرته العسكرية من أوكرانيا إلى سوريا؟ ولماذا يبحث حالياً بكل طاقاته عن مخدِّرات جديدة؟ هناك أحد الاستفتاءات الذي يُظهر لنا إلى أي مدى يُعتبر دعم الروس للحرب ضد أوكرانيا هشاً ومشروطاً – ونتائجه هي أن 16 في المائة من الروس فقط مستعدين للتضحية من أجل دولتهم”.
وهناك مثال آخر يوفر فكرة عن التأييد الذي يحظى به بوتين. فعندما زار الرئيس الروسي مدينة سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم في 9 أيار/مايو من العام الماضي (عيد النصر لروسيا) للمشاركة في المسيرة السنوية للاحتفال بذكرى الانتصار على النازيين، استقبله عشرات آلاف الأشخاص بهتافات الشكر على “إعادة” شبه جزيرة القرم إلى روسيا. ولكن في مقابلات وجهاً لوجه مع صحافي روسي واحد على الأقل، أشار سكان سيفاستوبول إلى المشاكل الاقتصادية وغيرها التي نتجت عن إلحاق شبه جزيرة القرم بروسيا. وسأل الصحافي: “ولكن إذا كان سكان سيفاستوبول يعانون من مشاكل جمة، فلماذا رحبوا ببوتين بهذه الحفاوة اليوم؟” فأجابه أحد السكان: “لأنهم لم يتعرضوا لأي خيبة أمل لغاية اليوم. نحن نتطلع إلى الأفضل، ولا يسعنا اليوم سوى الانتظار”.
وغالباً ما يختلط التأييد لبوتين بعدم وجود بدائل له. ففي محادثات خاصة أجريتها مع روس خلال الرحلات التي قمت بها إلى روسيا في السنوات الأخيرة، ترددت على مسامعي أقوال مماثلة. كما شعرت بعدم ثقة الشعب بالحكومة. فهذه المشاعر غير ملحوظة ويصعب تحسسها عن طريق إجراء استفتاء، إلا أنها قائمة. فالكثير من الروس يشعرون في قرارة أنفسهم بأن الحكومة تكذب عليهم، حتى عندما تحاول هذه الأخيرة تضليلهم من خلال الدعاية المستمرة.
وبمناسبة “المؤتمر العالمي للمواطنين الروس” الذين يعيشون خارج البلاد، والذي عُقد في 5 و 6 تشرين الثاني/نوفمبر في موسكو، قال ممثل دولة قيرغيزستان، ستانيسلاف إبيفانتسيف إنه حتى “السعوديين المتغطرسين” شعروا بقوة روسيا بعد شن الهجمات الصاروخية من السفن التابعة لأسطول بحر قزوين على مواقع “إرهابية” في سوريا. وأضاف، أما قبل هذه الأحداث، “فقد كان الكسالى هم الوحيدون الذين لم يظهروا ازدراءً بروسيا الضعيفة”. وفي غضون ذلك، لم تكن الوعود التي قطعها بوتين في المؤتمر ذات أهمية، في الوقت الذي أعلن فيه رئيس المجلس التنسيقي الجديد للمنظمة ميخائيل دروزدوف بأن “أقرانه شعروا بغبطة فائقة” بعد تجربَتَيْ شبه جزيرة القرم وسوريا. فحتى لو اكتشف بوتين مخدِّراً جديداً بعد سوريا، لن تدوم هذه النشوة بل ستنهار على حين غفلة.
آنا بورشفسكايا
معهد واشنطن