كشفت وثيقة سرية سربت من ويكيليكس مؤخرا، أن لنوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق دورا كبيرا في عمليات اغتيال علماء العراق. حيث أكدت الوثيقة أن المالكي زود الموساد الإسرائيلي وإيران بمعلومات ساهمت في تصفية المئات من العلماء النوويين والطيارين العراقيين، وقد قدرت الوثائق عدد من تمت تصفيتهم بالعراق من العلماء بـ350 عالما نوويا و80 ضابط طيران من القوات الجوية العراقية.
وأشارت الوثيقة إلى أن المالكي وفر السير الذاتية للعلماء العراقيين وطرق الوصول إليهم بغرض تصفيتهم، وسلمت هذه المعلومات إلى فرق اغتيال تابعة للموساد الإسرائيلي وإيران.
وذكر ويكيليكس أن العلماء العراقيين الذين قرروا التمسك بالبقاء في الأراضي العراقية ورفضوا التعاون مع العلماء الأميركيين أو الإيرانيين في بعض التجارب قد خضعوا لمراحل طويلة من الاستجواب والتحقيقات التي ترتب عليها إخضاعهم للتعذيب على يد الحكومة العراقية بإدارة وتوجيه من المالكي نفسه.
ويبدو أن علماء العراق قد شكلوا مصدر قلق حقيقي لأميركا وحلفائها أكثر من الأسلحة النووية في حد ذاتها، ففي أكتوبر من عام 2002 كتب مارك كلايتون المحرر في صحيفة “كريستين ساينس مونيتور” يحذر من العقول المفكرة التي تقف وراء المخزون العراقي من الأسلحة. وقدم لائحة بعدد من علماء العراق الذين تدربوا في الولايات المتحدة قائلا “إن هؤلاء العلماء والفنيين أخطر من أسلحة العراق الحربية، لأنهم هم الذين ينتجون هذه الأسلحة”.
ومن جهته ذكر أحد مفتشي الأسلحة السابقين في العراق، أنه أثناء زيارة لجامعة ميتشيغان عام 1993 اكتشف أنه بعد حرب الخليج بقي كثير من الطلاب العراقيين ملتحقين بجامعات أميركية لدراسة الفيزياء والهندسة النووية. وأنه أثناء إلقائه محاضرة أمام عدد من طلاب صف التخرج في الهندسة النووية كانوا يملأون الغرفة، وتبين أن هناك حوالي 12 طالبا عراقيا.
وكانت إحصائيات أميركية قد ذكرت أن جامعة جورجيا في أتلانتا قد منحت 1215 شهادة دكتوراه في العلوم والهندسة لطلاب من 5 من الدول السبع المصنفة من قبل وزارة الخارجية الأميركية على أنها دول ترعى الإرهاب، بما يمثل 2 في المئة من الشهادات التي منحت لطلاب من مواليد دول أجنبية، في الفترة الممتدة بين 1990 و1999.
أميركا من الأطراف المتورطة
أولت أميركا أهمية بالغة لمختلف التقارير والتحذيرات التي أعدت حول علماء وكوادر العراق، وكانت البداية عندما وضعت وزارة الدفاع الأميركية قائمة تتألف من 52 مسؤولا عراقيا من المطلوبين، بينهم عدد من علماء العراق النوويين والبيولوجيين في الفترة الأولى من دخولها العراق. وكانت هذه القائمة بمثابة المدخل لقائمات أخرى تم الوصول إليها عبر تكثيف عمليات البحث والملاحقة التي نفذتها بمساعدة جملة من الأطراف سواء من داخل أو خارج العراق.
الموساد قام باغتيال 530 عالما عراقيا وأكثر من 200 أستاذ جامعي وشخصيات أكاديمية ما بين 2003 و2006
وحسب دراسة للمنتدى العراقي للنخب والكفاءات فقد اعتمدت أميركا خطة بثلاثة خيارات، أولها الخيار الألماني، ويتمثل في محاولة دفع علماء العراق إلى إفشاء المعلومات إلى الجهات الغربية، بعد أن صادق مجلس الشيوخ الأميركي في نوفمبر 2002 على قانون يقضي بمنح العلماء العراقيين الذين يوافقون على إفشاء معلومات مهمة عن برامج بلادهم التسليحية بطاقة الهجرة الأميركية الخضراء، ووعدهم بآفاق بديلة أكثر إشراقا.
وتمثل الخيار الثاني في تصفية العلماء، أو ما يسمى بـ“الخيار السلفادوري”، وهو ينسب إلى “مجزرة السلفادور” التي أشرفت عليها “سي آي إيه” في أميركا اللاتينية وقامت خلالها بتصفية العلماء، فقد كانت القوات الأميركية في بداية غزوها للعراق تحمل قائمات بأسماء العلماء العراقيين الذين وردت أسماؤهم في قائمات مفتشي الأسلحة الدوليين وعناوينهم والأبحاث التي ينجزونها، ثم قامت باعتقالهم أو قتلهم أو الخيار الثالث القائم على الدمج بين الخيارين السابقين.
وفي هذا الإطار خضع العلماء العراقيون لمراحل طويلة من الاستجواب والاعتقال والتحقيق والتعذيب الجسدي المهين في معسكر كوبر في مطار بغداد وقصر السجود ــ الموقع الرئاسي في المنطقة الخضراء ــ في محاولة لإجبارهم على العمل في مراكز أبحاث أميركية أو التعاون مع علمائها.
ونقلت أميركا جوا سبعين عالما عراقيا خارج العراق، ووضعتهم في مناطق نائية خشية أن يسربوا ما لديهم من معلومات أو أن يحولوا تلك المعلمات إلى منظمات أو دول معادية لأميركا. وذكرت تقارير أن أغلب العراقيين رفضوا التعاون مع الجانب الأميركي، وهو ما عبر عنه كولن باول في خطابه أمام مجلس الأمن في ابريل 2003، عندما أبدى امتعاض إدارته من امتناع العلماء العراقيين عن التعاون مع فرق المحققين الدوليين ومن مراوغتهم لإخفاء حقائق التطور الذي بلغوه تقنيا، وإصرارهم على عدم الإدلاء بأقوالهم.
الموساد الإسرائيلي
ورد في دراسة لدار بابل للدراسات والإعلام أن فرق الموت التابعة للموساد الإسرائيلي أدت دورا هاما في عمليات الاغتيال التي نالت من العلماء العراقيين، في محاولة منها لمنع العرب من امتلاك الطاقة النووية، وبرز هذا الدور بشكل كبير في فترة الاحتلال الأميركي للعراق، فبعد فشل الولايات المتحدة في إقناع علماء الذرة والبيولوجيا العراقيين بالتعاون معها والعمل في خدمتها، تحركت عناصر الموساد لتصفية هؤلاء. ورصدت إسرائيل أجهزة ومعدات ومتخصصين وأموالا للغرض.
وكشف تقرير صدر عن مركز المعلومات الأميركي سنة 2005 أن الموساد قام باغتيال 530 عالما عراقيا وأكثر من 200 أستاذ جامعي وشخصيات أكاديمية ما بين 2003 و2006، وتشير معلومات أخرى إلى أن الموساد جند 2400 عنصر، إضافة إلى وحدة نخبة سرية تتضمن أكثر من 200 عنصر مؤهل من قوات البيشمركة من أجل الإجهاز على العلماء وتصفيتهم.
وتذكر دراسة للأستاذ إسماعيل جليلي بعنوان “محنة الأكاديميين العراقيين” أن الموساد الإسرائيلي شن 307 اعتداءات على الأكاديميين والأطباء، وتمكن من اغتيال 74 بالمئة منهم.
المالكي وميليشيات الحشد الشعبي
ساعد المالكي على أداء هذه المهمة إحكام قبضته الأمنية على العراق، من خلال وجود ميليشيات شيعية تخضع لأوامره مباشرة، فهناك 32 ألف موظف عراقي إيراني معظمهم فروا من نظام الرئيس الراحل صدام حسين إلى إيران، وقامت هيئة الحرس الثوري الإيراني بتمويلهم وإرسالهم إلى العراق عقب سقوط النظام في 2003 ليشغلوا مناصب حساسة في الجيش والمؤسسات العامة. تحت إمرة نوري المالكي وقد لعبوا أدوارا كبيرة في عمليات تصفية علماء العراق بالتعاون مع القوات الأميركية وعناصر الموساد الإسرائيلي.
وبعد عودة عمليات الاغتيال في السنوات الأخيرة للعراق وجهت اتهامات مباشرة للميليشيات الشيعية بالوقوف وراء تلك الاغتيالات التي أخذت طابعا سياسيا وطائفيا، فقد كشفت مصادر عراقية مؤخرا عن تورط ميليشيات الحشد الشعبي في اغتيال علماء عراقيين لدوافع طائفية.
تنظيم الدولة الإسلامية
عقب فرض سيطرته على جملة من المناطق العراقية، اشترك تنظيم داعش في منظومة اغتيال العلماء العراقيين، حيث قامت عناصر تنظيم الدولة الإسلامية بتصفية ستة علماء في الموصل وأربعة في صلاح الدين، وحجز عالمين، أحدهما طبيب والآخر مستشار سابق في هيئة الطاقة العراقية.
وبشكل عام فإن مخطط أميركا الساعي إلى إفراغ العراق من نخبه وضرب كل ملامح التطور فيه وإيقاف عجلة تقدم المجتمع العراقي بدأ منذ أطلق جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وعده في وجه طارق عزيز وزير الخارجية العراقي زمن فترة حكم صدام حسين أثناء اجتماعهما في جنيف عام 1991، حين قال “إذا لم تتعاونوا معنا فسنعيدكم إلى عصور ما قبل القرون الوسطى”. وهذا ما حدث فعلا حسب كل الشهادات.
صحيفة العرب اللندنية