الجيش الروسي، سلاح القوة الكونية الثانية عسكرياً، صرف أسابيع ممضة منذ أيار (مايو) الماضي لاجتياح مناطق واسعة من أوكرانيا، تحت طائلة خسائر باهظة في الأرواح والمعدات؛ وكان أنه، خلال أسبوع واحد وفي إطار هجمات أوكرانية مضادة، خسر نحو 6,000 كم مربع في عمق منطقة خاركيف، ضمنها 3,000 كم مربع في جبهة الشمال. مبكّر، بالطبع، الحديث عن منعطف حاسم يمكن أن يقود الاجتياح الروسي إلى أعتاب تعثّر جديدة، لا يُستبعد أن يرقى بعضها إلى سوية الانتكاسات الموجعة؛ ولكن قد يكون مواتياً تصنيف المجريات العسكرية الراهنة في خانة التحوّل النوعي في ميادين القتال، الأمر الذي سوف يفرز أكثر من منطق متغيّر في ميادين السياسة، أو سياسة الحرب على وجه التحديد.
على صعيد الداخل الأوكراني، ليست محطة عابرة أن يسارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى زيارة مدينة إزيوم، التي تمّ تحريرها مؤخراً من الاحتلال الروسي، فيرفع علم بلاده على وقع النشيد الوطني؛ ثمّ أن يقرن رمزية هذه الخطوة بما يقارب ابتزاز أوروبا والولايات المتحدة، والبناء على هذا الانتصار للمطالبة بمزيد من شحنات الأسلحة الثقيلة التي ستكفل إنجاز انتصارات أخرى. وزير خارجيته لم يتردد في الغمز من قناة المستشار الألماني أولاف شولتس، المتردد في إرسال مدرعات «ليوبارد 2» وعربات «ماردير»، قائلاً: ما الذي يخيف برلين، إذا كانت كييف غير خائفة؟ وللمرء أن ينتظر صدى هذه التصريحات في باريس ولندن، بما يُترجم بالفعل إلى «سياسة صلبة» في تزويد الجيش الأوكراني بالأحدث والأكثر تطوراً في ميادين التسلّح، اقتداء أيضاً بما فعلت واشنطن في حزمة مساعدات جديدة بقيمة 675 مليون دولار، تُضاف إلى مليارات سابقة خرجت من صندوق البنتاغون المستقلّ عن الصندوق الرئاسي للبيت الأبيض.
وكان تطوراً منطقياً، كذلك، أن تصل أصداء مكاسب الجيش الأوكراني إلى الداخل الروسي، ولكن على هيئة خيبات وجراح نرجسية؛ فيحدث، للمرة الأولى منذ بدء الاجتياح العسكري الروسي في أوكرانيا، أن يتوافق حفنة من مسؤولي 18 بلدية في محيط موسكو وبطرسبورغ على توقيع بيان مشترك يطالب باستقالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأن يضطرّ دمتري بيسكوف الناطق باسم الكرملين إلى منحهم الحقّ في التعبير (فهم منتخبون، في نهاية المطاف)؛ وألا يفوته، في الآن ذاته، تذكيرهم بأنّ تعدّد الآراء يحكمه خطّ رفيع للغاية لا يصحّ تجاوزه. وليس من المبالغة الافتراض بأنّ انتكاسات الجيش الروسي في خاركيف كانت على الأجندة المضمرة في مباحثات قمة «منظمة شنغهاي للتعاون» في سمرقند، خاصة لقاءات بوتين مع أمثال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (حيث الخلافات الروسية – التركية تُطبخ عادة على نيران إقليمية خافتة)، أو رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي (حيث الخلافات الروسية – الهندية أقرب إلى نار تحت الرماد). ورغم أنّ الإدارة الأمريكية ابتهجت تماماً، وكما يُنتظر منها، إزاء انتكاسات الجيش الروسي الأخيرة، فإنّ «الحكماء» من مستشاري البيت الأبيض، خاصة العارفين بما يمكن لأيّ دبّ روسي جريح أن يذهب إليه ضمن ردّات الفعل، نصحوا بالتريث في تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى تتجاوز أمديتها 300 كم.
البعض في الغرب يذهب، على سبيل تثمين المكاسب الأوكرانية الأخيرة، إلى درجة استرجاع الحقيقة التي تقول إنّ آخر اختراق عسكري ميداني شهدته أوروبا كان في صيف 1995 حين نجح الجيش الكرواتي في تحرير 17,000 كم مربع من أٍراضي كرايينا الصربية، متناسين أنّ نحو 150,000 صربي هُجّروا يومئذ من مساكنهم. ولا عجب أن يترافق رفع العلم الأوكراني في إزيوم مع الإعلان عن اكتشاف مقبرة جماعية تحوي 445 جثة، فهذا تفصيل شبه محتوم في حرب روسية بدأت من مفاجآت حساباتها المتضاربة، ولا تكفّ عن المسير نحو مدٍّ في تطوراتها وجزرٍ، يُبقي الكثير من كوابيسها معلّقة محتمَلة.
القدس العربي