العراق واقع منذ الغزو في عام 2003 في “فخ مزدوج” أميركي – إيراني، ومحكوم بنوع من “عقدة غورديان” الأسطورية التي أحكم شدها غورديوس ملك فرييجيا وقيل إنه لا أحد يستطيع فكها، حتى جاء الإسكندر المقدوني وقطعها بسيفه. الجانب الأميركي من الفخ يبدأ من الدستور الذي حذف هوية العراق العربية، وأعطى فرصة لممارسة نوع من الثلث المعطل عبر فرض أكثرية الثلثين لانتخاب رئيس الجمهورية، وجعل تعديله مهمة شبه مستحيلة، كما منع تعديل مواد الباب الأول كلها، ولا ينتهي بتركيب المحاصصة في السلطة بين “مكونات” البيت الشيعي والبيت السني والبيت الكردي، فضلاً عن بناء جيش انهار في الموصل خلال المواجهة مع “داعش”، بصرف النظر عن مسؤولية رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي. والجانب الإيراني من الفخ يبدأ من تنظيم فصائل مسلحة مرتبطة بـ “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري وفرض منحها الشرعية تحت عنوان “الحشد الشعبي”، ولا ينتهي بتركيز السلطة الفعلية في البيت الشيعي.
كل محاولات الخروج من الفخ لم تنجح، لا عبر ثورة 2019 الشعبية في بغداد وكربلاء وبقية مدن الجنوب التي رفعت شعار “إيران بره”، ولا من خلال حكومة مصطفى الكاظمي ومشروع الدولة الوطنية، ولا عبر المحاولة الأخيرة للتيار الذي يقوده رجل الدين مقتدى الصدر، بعدما حصد أعلى رقم بين الأحزاب في الانتخابات، وتفاهم مع “تحالف السيادة” السُني و”الحزب الديمقراطي الكردستاني” على تأليف حكومة “أغلبية وطنية”، فأوقفه سلاح الثلث المعطل الذي رفعه “الإطار التنسيقي” المرتبط بإيران. وليس في العراق إسكندر مقدوني ليقطع بسيفه “عقدة غورديان”. ولا شيء بالصدفة، لا تجذر الفساد وتمدده وتجدده، ولا إبقاء بلاد الرافدين حائرة بين العرب وإيران والغرب والشرق، ولا صعوبة قيام دولة وطنية تحت عنوان “لا شرق ولا غرب”، وهو شعار تبناه أخيراً مقتدى الصدر.
ذلك أن الرهان على نظام ديمقراطي تديره أحزاب طائفية مسلحة بالفتاوى والصواريخ والمسيرات هو تمارين في العبث، والحديث عن دولة وطنية تتحكم بها أحزاب ثيوقراطية تابعة لدولة ثيوقراطية في الجوار هو حديث خرافة، فضلاً عن التصرف على أساس أن السلطة المنوطة برئيس الحكومة ومجلس الوزراء في ظل رئيس جمهورية محدود الصلاحيات هي امتياز للأحزاب الشيعية وبالذات للكتلة الأكبر، يقود حتماً إلى أن تصبح الصراعات الكبيرة على السلطة داخل البيت الشيعي. فالكتلة الأكبر، بحسب الاجتهاد “السياسي” للمحكمة الاتحادية العليا، هي التي تعمل إيران على تجميعها في البرلمان، لا التي تحوز الرقم الأعلى في الانتخابات وتتمكن من ترتيب تحالف مع قوى سنية وكردية بالتالي أكثرية قادرة على تأليف حكومة. هكذا أفشل وكلاء طهران تأليف حكومة “أغلبية وطنية” من التيار الصدري و”تحالف السيادة” السني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وهكذا يقترب العراق من ذكرى مرور عام على إجراء الانتخابات النيابية من دون القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة.
وما يحدث هو من طبائع الأمور في الأنظمة الشمولية، مع أن النظام العراقي ديمقراطي بحسب الدستور. كيف؟ السلطة في الأنظمة الشمولية هي للحزب الحاكم، والصراعات على السلطة تدور على القمة بين قادة الحزب الحاكم، والسجناء السياسيون أو المحكومون بالإعدام هم من الحزب الحاكم لأنهم وحدهم يمارسون العمل السياسي. أليس هذا ما حدث في الاتحاد السوفياتي والصين؟ أليس ما حدث من صدامات في العراق كان بين أطراف شيعية؟ حتى ثورة الشباب عام 2019 كانت عملياً ثورة جيل شيعي جديد ضد النفوذين الإيراني والأميركي ورموزهما العراقية في السلطة. ولن يتمكن العراق من الخروج من الفخ المزدوج الأميركي – الإيراني وقطع “عقدة غورديان” من دون تحالف وطني بين أحزاب وطنية عراقية ديمقراطية ترفض التبعية لأية دولة أو طائفة، مع إبقاء الأبواب مفتوحة على العلاقات الجيدة مع إيران والدول العربية والغرب والشرق.
يقول الدكتور إحسان الشمري رئيس “مركز التفكير السياسي” في العراق إن العقول التي أنتجت الخراب لن تنتج الحلول، ونحن في حاجة إلى عقول ووجوه سياسية جديدة تضع الأسس الصحيحة لنظام سياسي رصين لا يكون مرتهناً للخارج”. ويعترف رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بأن “ما وصلنا إليه يعود إلى التأسيس الخاطئ للعملية السياسية عام 2003″، لكن وضوح الأزمة ليس بطاقة ضمان للحل، مع الأسف.
اندبدنت عربي