حفلت نهاية الأسبوع الماضي بالتحركات واللقاءات حول الوضع اللبناني المأزوم، منها ما يكرس الاستنتاج القائل، إن الانسداد السياسي في عملية ملء الشغور الرئاسي يزداد تعقيداً على الصعيد الداخلي، ومنها ما حفز الأوساط اللبنانية على رصد ما يمكن للمواقف والاتصالات الخارجية أن تفضي إليه بالمعنى الإيجابي. فاللبنانيون، لا سيما بعض قادتهم، تبقى أنظارهم مشدودة إلى الخارج لعل الترياق يأتيهم من القوى الدولية والإقليمية إلى درجة يعمل هذا البعض، مع أنه يدعو في المواقف العلنية إلى عدم انتظار الحلول من الخارج، على تسقّط الاسم الذي يمكن لأي تسوية إقليمية أن ترسو عليه للرئاسة، هذا على الرغم من أن أوساطاً أخرى تنصح بعدم إضاعة الوقت بمراهنات كهذه، لأن قراءتها للمعادلات الخارجية، وما تسمعه من دبلوماسيي الدول الكبرى المعنية بلبنان، يخلص إلى أن لبنان في أسفل الاهتمامات أمام العناوين الأكثر أهمية وخطورة، من حرب أوكرانيا وصولاً إلى المستجدات في الداخل الإيراني، وبينهما ما يتفرع من أوضاع اقتصادية وتحالفات متنقلة.
على الصعيد الخارجي برزت أربع محطات مهمة تتعلق بلبنان. الأولى هي ما تضمنه البيان الختامي للقمة الصينية- السعودية عن البلد الصغير. فمعظم المهتمين بالمناخ الجيوسياسي المحيط بلبنان ينظرون إلى أهمية تلك القمة كمعطى سياسي جديد على صعيد العلاقات الدولية الإقليمية، والموقع الفاعل للمملكة العربية السعودية الحليفة للولايات المتحدة الأميركية على الرغم من الخلافات في مقاربة ملفات عدة، لا سيما أسعار النفط.
لبنان وإيران في بيانات القمم العربية- الصينية
فضلاً عن أن البيان المشترك تضمن فقرة طويلة في شأن إيران ودورها وملفها النووي، فإن موافقة الصين على تضمينها الإشارة إلى رفض التدخلات في الشؤون الداخلية للدول، الذي يشار به على الدوام في البيانات العربية إلى تمدد طهران في دول المنطقة وزعزعتها الاستقرار فيها. وشكلت الإشارة إلى قضية الجزر العربية الثلاث التي تحتلها نقلة ذات مغزى في موقف دولة كبرى بوزن الصين التي تعتبرها طهران والأحزاب التي تواليها حليفتها. وهو ما دفع الخارجية الإيرانية إلى استدعاء السفير الصيني لديها للتعبير عن “استيائنا الشديد مما ورد في البيان المشترك للصين ودول مجلس التعاون الخليجي، حول الجزر الثلاث”. واستطراداً أشار البيان الصيني- السعودي إلى “حرص البلدين على أمن واستقرار ووحدة الأراضي اللبنانية، وأهمية إجراء الإصلاحات اللازمة، والحوار والتشاور بما يضمن تجاوز لبنان أزمته، تفادياً لأن يكون منطلقاً لأي أعمال إرهابية وحاضنة للتنظيمات والجماعات الإرهابية التي تزعزع أمن المنطقة واستقرارها أو مصدراً أو معبراً لتهريب المخدرات”.
بيان المجلس الأعلى للاجتماع الـ43 لمجلس التعاون الخليجي جاء أكثر تفصيلاً، بعد لقاء قادته مع الرئيس الصيني شي جينبنغ، إذ دعا “جميع الأطراف اللبنانية إلى احترام الدستور والمواعيد الدستورية”، مشيداً بجهود أصدقاء لبنان وشركائه لتعزيز الثقة والتعاون بينه ودول مجلس التعاون، ودعمهم دور الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي في حفظ أمن لبنان. وأكد المجلس دعمه المستمر لسيادة لبنان وأمنه واستقراره، وللقوات المسلحة اللبنانية التي تحمي حدوده وتقاوم تهديدات المجموعات المتطرفة والإرهابية، مؤكداً أهمية تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية هيكلية شاملة تضمن تغلب لبنان على أزمته السياسية والاقتصادية، وعدم تحوله إلى نقطة انطلاق للإرهابيين أو تهريب المخدرات أو الأنشطة الإجرامية الأخرى التي تهدد أمن المنطقة واستقرارها، وأهمية بسط سيطرة الحكومة اللبنانيةعلى جميع الأراضي اللبنانية، بما في ذلك تنفيذ أحكام قرارات مجلس الأمن ذات الصلة واتفاق الطائف، من أجل أن تمارس سيادتها الكاملة فلا يكون هناك أسلحة إلا بموافقة الحكومة اللبنانية، ولا تكون هناك سلطة سوى سلطته. ودان المجلس دعم إيران الميليشيات الطائفية في عدد من الدول من بينها لبنان.
أما إعلان الرياض عن القمة العربية- الصينية فتناول لبنان في سياق الإشارة إلى “دعم جهوده والصومال والسودان لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية والازدهار ومكافحة الإرهاب”.
استقبال ولي العهد السعودي لميقاتي
المحطة الثانية بالتسلسل، كانت تصريح وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود في رده على سؤال، فشدد على أن اللبنانيين أمام اختيار رئاستين (رئيسي الجمهورية والحكومة) ويعود إلى اللبنانيين أن يقرروا ما هو الأفضل لهم”، والسعودية والدول العربية ستدعم اللبنانيين في ما يقررون، متمنياً للبنان كل الخير”. وأكد أن السعودية حاضرة في الساحات كلها.
المحطة الثالثة كانت استقبال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، في خطوة عكست رفع المملكة درجة اهتمامها بلبنان وأزمته، بعد أن مرت أكثر من خمس سنوات لم يجتمع مسؤول لبناني رفيع بأي مسؤول سعودي كبير نتيجة التأزم في علاقات البلدين ما أدى إلى سحب عدد من سفراء الخليج نهاية عام 2020، جراء استمرار السياسات العدائية تجاه الرياض من بعض الفرقاء اللبنانيين، لا سيما “حزب الله“، ثم إعادتهم بناء على مواقف صدرت عن الحكومة اللبنانية تشدد على الرغبة في تحسين العلاقات، وتصريحات من ميقاتي والخارجية اللبنانية تستنكر الاعتداءات الحوثية على أراضيها. واللافت أن الخارجية السعودية بثت على “تويتر” بياناً عن الاستقبال. وأشارت إلى أن البحث تناول أوجه العلاقات الثنائية و”عبر رئيس الوزراء اللبناني عن الشكر والتقدير الدائم لمواقف المملكة التاريخية تجاه لبنان والدور الأساسي للمملكة في إرساء المصالحة اللبنانية وتكريس مرحلة السلام بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني في مؤتمر الطائف. وأكد البيان التزام الحكومة اللبنانية اتخاذ كل الخطوات التي تمنع الإساءة إلى السعودية وكل الدول العربية لا سيما منها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية”.
وأشار بيان الخارجية السعودية إلى أنه تم تأكيد أهمية انتخاب رئيس للبنان وتنفيذ الإصلاحات التي يتطلع إليها الشعب اللبناني والمجتمع الدولي”. وأكد ولي العهد “حرص المملكة على أمن لبنانواستقراره، واستمرار الدعم الإنساني الذي تقدمه المملكة وفرنسا للشعب اللبناني الشقيق”.
فتح الباب… وتنفيذ مطالب الإصلاح والنأي بالنفس
وفي وقت ردت فيه وسائل إعلام لبنانية الاجتماع إلى تمن فرنسي على الجانب السعودي باستقبال ميقاتي، نفت مصادر الأخير ذلك، لكنها أوضحت أنه يتلاقى وجهود السعودية وفرنسا على إنشاء صندوق للمساعدات الإنسانية للبنان”. وكشفت عن أن ميقاتي “سبق أن اجتمع مع ولي العهد السعودي على هامش قمة شرم الشيخ الشهر الماضي كما تحادثا مطولاً في افتتاح مونديال قطر حول أكثر من ملف ولم يعلن في حينه عن هذين اللقاءين”، وفق موقع “ليبانون 24″ الإخباري الذي يملكه ميقاتي. وأشار الموقع إلى أن الزيارة إلى المملكة رسمت بداية صفحة جديدة من العلاقات وخريطة طريق واضحة تحتاج إلى تعاون جميع اللبنانيين لإعادة العلاقات إلى طبيعتها بشكل كامل على مختلف الصعد، بعد توترات الفترة الماضية التي أدت إلى قطيعة بين البلدين. ورئيس الحكومة نجح في مسعاه بإعادة وصل ما انقطع سابقاً”.
وقال مصدر مقرب من ميقاتي لـ”اندبندنت عربية” إن اجتماعه مع ولي العهد السعودي فتح باب تحسين العلاقة مع المملكة، بعد أن كان التواصل محدوداً، بالتالي هناك أمور تحتاج إلى متابعة وعلى لبنان أن يقوم بما عليه من واجبات في هذا السياق. ودعا إلى عدم التوهم بأنه يمكن للبنانيين أن يتخطوا المطالبة الدولية والعربية بتنفيذ الإصلاحات والتزام تنفيذ اتفاق الطائف والعودة إلى اعتماد مبدأ “النأي بالنفس” عن صراعات المنطقة، بدل الانحياز لمحور إيران، ما يناقض هويته العربية. وأقر المصدر نفسه بأن الجميع يدرك في الخارج والداخل أن الأمور ما زالت معقدة على صعيد إنهاء الفراغ الرئاسي في البلد، وأن الظروف التي تتيح إحداث تقدم في الحلول لم تنضج بعد”.
تفاؤل بالاهتمام الخارجي
في كل الأحوال أعطت هذه المواقف جرعة من التفاؤل بإمكان استعادة لبنان الاهتمام الخارجي بأزمته، وثبتت المعطيات التي أخذت تظهر في الأشهر الماضية بأن القيادة السعودية تتابع عن كثب الأزمة في لبنان، وأنه لا صحة للتكهنات بعدم اكتراثها بما يحصل فيه نتيجة غلبة نفوذ “حزب الله”، بل هي منخرطة في مساعي استعادته إلى الحاضنة العربية. ويرى مراقبون أن قمم الرياض كرست توجهاتها لتنويع علاقاتها الدولية، ما يرتقي بها إلى مركز استقطاب عربي في السياسات العالمية.
المحطة الرابعة جاءت في استقبال قطر قائد الجيش العماد جان قهوجي حيث التقى نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني في 10 ديسمبر (كانون الأول)، فشكره، بحسب بيان لقيادة الجيش، “على المبادرات المتكررة التي تقوم بها قطر لمساعدة الجيش خلال هذه المرحلة”. والمعلوم أن الدوحة تبرعت للجيش قبل أشهر بـ65 مليون دولار أميركي دعماً لرواتب العسكريين التي تدهورت بفعل انهيار الليرة اللبنانية، فضلاً عن بعض المساعدات العينية. وسرت تكهنات في بيروت أن للزيارة علاقة بتسويق اسم قائد الجيش للرئاسة، بعد أن تسربت معلومات أن الدوحة تلعب دور إقناع رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، الذي سبق أن رفض دعم ترشيح “حزب الله” حليفه رئيس تيار “المردة سليمان فرنجية، وأعلن معارضته ترشيح العماد عون”.
محطات الداخل: تصعيد طائفي والراعي يحاذر
أما المحطات المهمة في الداخل، قبيل الجلسة النيابية الـ10 الخميس 15 ديسمبر لانتخاب الرئيس، التي يتوقع أن تنتهي كسابقاتها إلى تمديد الفراغ الرئاسي، فإنها تندرج في سياق الصراع الداخلي على الرئاسة، وما خلفه من احتجاج من الأخير وعمه الرئيس السابق ميشال عون، على اجتماع مجلس الوزراء على الرغم من اعتراض الوزراء المحسوبين على الفريق العوني؟ فزار كل منهما البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، واعتبرا أن الرئيس ميقاتي يضرب الدستور والميثاق الوطني بين الطوائف. وأوحى باسيل أن ممارسة الحكومة صلاحية الحلول مكان رئيس الجمهورية (كما ينص عليه الدستور) غير قانوني من قبل حكومة مستقيلة، مكرراً لوم حليفه “حزب الله” لموافقته على تأمين نصاب انعقاد الجلسة.
وبينما عكس خلاف باسيل مع “حزب الله” على جلسة مجلس الوزراء مأزق استمرار الفراغ الرئاسي بفعل الخلاف على هوية الرئيس المقبل واسمه، فإن التجاذب في شأن ترؤس ميقاتي الجلسة في الخامس من ديسمبر (ودعم “حزب الله” لانعقادها) وتوقيع رئيس حكومة تصريف الأعمال مراسيم القرارات التي اتخذت على الرغم من غياب الوزراء الموالين لتياره السياسي أطلق تحركاً ومواقف لباسيل أخذت طابعاً طائفياً، خلال زيارته والرئيس عون للراعي، للشكوى من تهميش دور الرئاسة الأولى بالتالي الموقع المسيحي في السلطة. سعى باسيل إلى الإفادة من معارضة فرقاء مسيحيين آخرين لجلسة مجلس الوزراء مثل “حزب القوات اللبنانية” (اعتبر أن باسيل يرفع سقف موقفه في التفاوض مع “حزب الله”) و”حزب الكتائب، لكن من منطلقات مختلفة، عنوانها الأولوية لانتخاب رئيس الجمهورية متهمة باسيل بالمساهمة في تأخير ملء الفراغ باعتماده الورقة البيضاء في التصويت مقابل دعم القوى السيادية ترشيح النائب ميشال معوض، كما أن البطريرك الراعي أعلن في 11 ديسمبر أنه كان تمنى على ميقاتي تأجيل انعقاد مجلس الوزراء، لكنه حاذر الانسياق إلى إثارة الأمر من زاوية طائفية. وشدد على أن البطريركية “لا تتورط في صراعات السياسيين والأحزاب وهي فوق النزاعات…”، وقد طالب الراعي من ميقاتي بـ”التأني” في ممارسة الصلاحيات”. وركز البطريرك على وجوب انتخاب الرئيس، فسأل “كيف يحكم النواب على ذواتهم وهم يجتمعون تسع مرات ولا ينتخبون رئيساً؟ هذا يعني أنهم لا يريدون انتخاب رئيس، ويطعنون بوجود الجمهورية، ويفقدون ثقة الشعب واحترام الدول الشقيقة والصديقة التي تعمل على إنقاذ لبنان. أليست جلسات النواب لإيهام الشعب والعالم بأنهم يجتمعون لانتخاب الرئيس، وهم يخدعون ويموهون؟ ورداً على مطالبة باسيل له بجمع القيادات المسيحية لاتخاذ موقف مما يحصل ولتسمية مرشحين غير فرنجية، قال الراعي “لا قيمة لتكرار اجتماعات تذهب في مهب الريح كما هو حاصل منذ ثلاثة أشهر”.
وجدد الراعي الدعوة إلى تدويل القضية اللبنانية، لافتاً إلى أن “الذين يفشلون الحلول الداخلية هم أولئك الذين يرفضون التدويل. وحين يتم تعطيل الحل الداخلي ويرفض التدويل يعني أن هؤلاء الأطراف لا يريدون أي حل للوضع اللبناني. إما يكون لبنان كما يريدون أو لا يكون”.
في المقابل سعى باسيل إلى خفض منسوب الخلاف مع “حزب الله” بعد أن اتهمه ضمناً بأنه لم يكن “صادقاً” معه بألا تجتمع الحكومة في ظل الفراغ الرئاسي. وامتدح الأمين العام للحزب حسن نصر الله، لتبديد الخلاف الذي دفع الحزب إلى إصدار بيان للمرة الأولى رد فيه على اتهامه من قبل “التيار الوطني الحر” بأنه نكث بوعود لم يقطعها، لكن باسيل سأل كيف يصر الحزب على تسمية فرنجية للرئاسة على الرغم من معارضته وتياره؟ ولم تستبعد أوساط مقربة من الحزب أن يعاد التواصل بين الجانبين بعد أن امتنع نصر الله عن تلبية طلب باسيل الاجتماع به.
إزاء هذا المشهد، اضطر ميقاتي إلى زيارة البطريرك الراعي غداة عودته من الرياض ليؤكد له أن اجتماع مجلس الوزراء لضرورات إنسانية كان مطلوباً اتخاذ قرارات في شأنها، حضره وزراء من الطوائف كلها، وأنه لا يقبل التصرف على أسس طائفية، بينما ذكرت معلومات أن الراعي لن يأخذ بمطالعات طائفية، وكل همه انتخاب رئيس جديد.
وقد حفل الداخل اللبناني بالمناكفات جراء الخلاف على المرشحين للرئاسة واستمرار التباعد بين القوى المتنافسة على حصد النفوذ فيها خلال السنوات المقبلة، بموازاة الحضور اللبناني في قمم الرياض، ما يبقي على العقبة الداخلية أمام أي جهد خارجي لإنهاء الفراغ الرئاسي.
اندبندت عربي