كأي متابع عربي لبطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر، تعتريني، منذ حفل افتتاحها المذهل، مشاعر الاعتزاز بنجاح دولة عربية في تنظيم هذا الحدث الرياضي العالمي. وقد تضاعفت هذه المشاعر على نحو أكبر، بفعل الأداء الكبير للمنتخب المغربي في البطولة. لم أكن يوماً مشجعاً قوياً لأي من المنتخبات أو الأندية العالمية المعروفة، لكنني عادة ما أتعاطف في مثل هذه البطولات مع الفرق الضعيفة، ليس كرهاً بالمنتخبات القوية، بقدر اعتقادي بأن كرة القدم تُجسّد واقعاً مؤلماً للهيمنة السياسية والثقافية للأقوياء في هذا العالم على الضعفاء. قد يبدو هذا الاعتقاد مبالغاً فيه لأن وظيفة كرة القدم هي المتعة قبل أي شيء آخر، لكنّه تعزّز لدي بشكل أكبر بسبب التوظيف السياسي الغربي لاستضافة قطر للبطولة من أجل التقليل من شأنها لمُجرّد أنها دولة عربية ومُسلمة، ومن أجل فرض قيم غربية مُثيرة للانقسام بين الأمم. لذلك، بتّ أنظر إلى مونديال قطر على أنه فرصة لنا، نحن شعوب دول العالم الثالث، للتعبير عن أنفسنا وقيمنا وثقافتنا بعدما عجزنا عن فعل ذلك في ميادين السياسة والاقتصاد في عالم غير عادل ويستطيع فيه القوي الهيمنة على الضعيف في كل شيء تقريباً.
وصف معلقون رياضيون مونديال قطر بأنه الأكثر غرابة في تاريخ المونديالات من حيث المفاجآت الرياضية. وإذ يهتم الباحث في العلاقات الدولية، عادة، بالمؤشّرات على التحولات العالمية، فإنه يجد في مونديال قطر فرصة أخرى لإضفاء بُعد مجازي على النقاش، بشأن التغييرات الهائلة التي تطرأ على الجغرافيا السياسية العالمية في عصرنا الراهن. على سبيل المثال، نجاح المغرب في هزيمة فرق ثلاث دول أوروبية لديها تاريخ عريق في هذه اللعبة مؤشر مجازي على ضعف أوروبا السياسي والاقتصادي، وعلى صعود أدوار العالم الثالث في تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية. عند متابعة بعض المنتخبات الأوروبية البارزة، عادة ما أُسَرّ بمشاهدة اللاعبين المحترفين من أصول إفريقية أو عربية أو مسلمة، وأمنّي النفس بها للتأكيد على أن لدى المهاجرين فضلاً ليس فقط في نهضة كرة القدم الأوروبية، بل أيضاً بالنهضة الاقتصادية لأوروبا. مع ذلك، يعتمد المنتخب المغربي، على سبيل المثال، بشكل كبير، على لاعبي الشتات الذين يلعبون في نوادٍ أوروبية محترفة. فقد ولد 14 من أصل 26 من أعضاء الفريق في الخارج، معظمهم في دول أوروبية، مثل فرنسا وهولندا وإسبانيا، لكنّهم اختاروا اللعب مع بلدهم الأصلي.
وقد عزّزت هذه الظاهرة لدى كاتب هذه السطور صورة عامة لفشل أوروبا في استيعاب المهاجرين من دول شمال إفريقياً. رغم أن اللاعبين المغاربة وُلدوا في بلدان أوروبية، وتعلموا في مدارسها، إلّا أنّهم عبّروا بوضوح عن انتماءاتهم الثقافية والدينية الحقيقية، عندما لعبوا إلى جانب بلدهم الأصلي، لأنّهم يعجزون، في الواقع، عن فعل ذلك في المجتمعات الغربية. يعكس ذلك مظهراً آخر من مظاهر الحروب الثقافية التي يتفوّق فيها الغرب بفعل إمكاناته السياسية والدعائية الهائلة مقارنة بدول العالم الثالث. شكّل مونديال قطر للعرب والمسلمين على وجه التحديد فرصة كبيرة للتعبير عن الاعتزاز بهويتهم الدينية وقيمهم الثقافية والاجتماعية. خذ، على سبيل المثال، سجود لاعبين مغاربة بعد كل فوز واحتضان أمّهاتهم. لم يَعتَدْ هذا المشهدَ المهم في الحرب الثقافية العالمُ الآخر. نعتز نحن، في العالم العربي والإسلامي، للغاية، بروابطنا الاجتماعية القوية بوصفها جزءاً من هويتنا الدينية والثقافية بالدرجة الأولى. كبار السن لدينا مقدّسون كما الأسرة. في وقت يسعى فيه غربيون لفرض قيم غريبة عن الفطرة البشرية تُضعف مكانة الأسرة وتُروّج ما يهدمها من أفكار مثيرة للنفور، فإن مونديال قطر أتاح لنا من خلال الدائرة المستديرة التعبير عن اعتزازنا بقيمتنا وثقافتنا، ودفع ملايين المشاهدين في الغرب إلى رؤيتها.
أمر آخر مثير للاهتمام، وهو الفرصة التي أتاحها المونديال للعرب والمسلمين لإظهار قضاياهم السياسية للغرب، كالقضية الفلسطينية. رفع الأعلام الفلسطينية في مباريات عديدة، والتلويح بها عند الفوز، مشهد من مشاهد الابتكار الخلاق لدى المشجعين واللاعبين، لإيصال مظلومية الفلسطينيين مع الاحتلال الإسرائيلي إلى كل منزل في هذا العالم. لا ينبغي التقليل من شأن هذه الوسيلة للقول للعالم الآخر إن الفلسطينيين يستحقون التخلص من هذا الاحتلال، ويمتلكون حق العيش بسلام كما أي شعب. في الوقت الذي يتغاضى فيه الغرب عن عدوانية إسرائيل بحق الفلسطينيين، وتمضي بعض البلدان العربية في التطبيع مع إسرائيل، فإن مونديال قطر أظهر أن التعاطف العربي الواسع مع القضية الفلسطينية لا يزال قوياً. بقدر ما أن هذه الصورة رسالة إلى الغرب، فإنها أيضاً رسالة إلى الحكومات العربية بأن الشعوب العربية لم تتخلّ عن إيمانها بالحق الفلسطيني. وقد أوردت الصحافة الإسرائيلية أن الإسرائيليين منزعجون للغاية من تحوّل مونديال قطر إلى وسيلة لإظهار الدعم العربي والإسلامي للفلسطينيين. مثل هذا الانزعاج ينبغي أن يدفعنا إلى تعليق آمال كبيرة على أن الوسائل المبتكرة للتعبير عن قضايانا السياسية العربية والإسلامية مؤثرة للغاية على الرأي العالم العالمي.
عبّر اللاعبون المغاربة بوضوح عن انتماءاتهم الثقافية والدينية الحقيقية، عندما لعبوا إلى جانب بلدهم الأصلي
قد يُقلل بعضهم من شأن هذه النقاط، لأن كرة القدم تبقى لعبة، لكنّ تلك العناصر الرمزية التي جاءت عليها السطور أعلاه تبقى علامة مجازية على نظام عالمي مُتغير لم تعد فيه القوة وأنظمة القيم متمحورة في الغرب كما كان في الماضي. فضلاً عن أن المونديال أظهر نظاماً جديداً يتشكّل في الجغرافيا الرياضية العالمية، فإنه كشف أيضاً أن هيمنة الغرب في صراع القيم ليس نتيجة حتمية لا يُمكن عكسها، وأن العالم الآخر يُظهر مقاومة كبيرة للحفاظ على قيمه وهويته الثقافية والدينية. أظهر المونديال كذلك أن القومية العربية لا تزال مؤثرة في صناعة الرأي العام العربي، وأنها لا تزال تتغلب على المشكلات السياسية بين الدول العربية. يُعزى بعض الفضل في ذلك إلى التفاعل الذكي لأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، مع المنتخبات العربية في البطولة من خلال الاحتفاء بفوزها ورفع أعلام دولها، وهو أمر لم يعتده الجيل الحالي من الشعوب العربية.
أخيراً، قد تكون اللحظة الاستثنائية لصراع القيم والهويات في مونديال قطر عابرة، وتنتهي بانتهاء البطولة، لكنها بالتأكيد ستبقى في أذهان العرب والعالم سنوات وربما عقوداً طويلة. مع ذلك، ستبقى القيم الثقافية والدينية والعروبة غير السياسية التي تعمل بشكل عفوي على مستوى الأفراد بدلاً من النخبة السياسية تتحين الفرص للتعبير عن نفسها وضخّ دماء جديدة فيها.
العربي الجديد