أبدت إيران انزعاجها الشديد من نتائج زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى السعودية والقمم الثلاث التي تخللتها مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ومع دول المجموعة العربية.
ولم تخفِ القيادة الإيرانية انزعاجها هذا، فعبرت عنه على لسان قادتها وتحول إلى مادة سجالية في الصحف الإيرانية الموزعة الولاء بين تياري المنظومة الإيرانية الحاكمة، الإصلاحيين والأصوليين، فذهب بعض هؤلاء إلى السخرية من الاتفاق “الاستراتيجي” بين بكين وطهران، وحاول آخرون تفسير الأداء الصيني بالقول إن الصين تهتم بمصالحها في الدرجة الأولى، ولا تبدي اهتماماً كبيراً بالمحاور والاتفاقات الاستراتيجية.
الأسباب المعلنة للغضب الإيراني كانت موافقة الصين على ثلاثة أمور وردت في البيان المشترك الصيني الخليجي تنص على حق الإمارات في استعادة جزرها الثلاث بالتفاوض والوسائل السلمية (طمب الكبرى وطمب الصغرى وأبو موسى التي تحتلها إيران منذ مطلع السبعينيات)، وعلى ضرورة إنجاز الاتفاق النووي وتعاون إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وعلى عدم التدخل في شؤون الدول المجاورة.
هذه المواقف تلتزمها المجموعة العربية ودول مجلس التعاون وهذا ما تعرفه إيران وترفضه بدأب، إلا أن التزام الصين وعلى أعلى المستويات بها، كان كفيلاً بإثارة بلبلة إيرانية لم تنته ارتداداتها حتى الآن.
الجمعة الماضية، تولى خطيب جمعة طهران سيد أحمد خاتمي مواصلة الهجوم على الرئيس الصيني شخصياً، معلناً أنه “على رئيس الصين وأي شخص آخر أن يعلم أن إيران لا تجامل أحداً في ما يتعلق بوحدة أراضيها. لقد زار رئيس الصين السعودية واتخذ موقفاً خاطئاً في شأن الجزر الثلاث”.
كرر خاتمي ما كان الرئيس الأصولي إبراهيم رئيسي قاله بعد يومين من انتهاء القمم التاريخية في الرياض. كان خاتمي مجتمعاً مع نائب رئيس الوزراء الصيني هو جون خوا الزائر عندما أبلغه أن “بعض مواقف الرئيس الصيني أثارت استياء وانتقاد الشعب والحكومة في إيران، والتعويض عن المواقف المطروحة يشكل مطلباً جدياً لدى إيران”.
نائب الرئيس الإيراني محمد مخبر كرر مواقف رئيسه، وفي بيان صادر عن اجتماعه مع المسؤول الصيني وزعته وسائل إعلام الدولة جاء أن الطرفين “اعتبرا ضرورة احترام وحدة أراضي الجمهورية الإسلامية كمبدأ مهم غير قابل للنقاش”. غير أن المسؤول الصيني الذي تولى طمأنة محاوريه الإيرانيين في العموميات لم يكن قادراً على “تهدئة الجمهور”. فوكالة “بلومبيرغ” تلفت الانتباه إلى أن “الوزن الرسمي للمسؤول الذي اتجه إلى طهران بعد حضور الرئيس إلى الرياض، تراجع بشكل ملحوظ في الأعوام الأخيرة”. وتقول الوكالة إن هذا التمثيل يبدو سلبياً بالمقارنة مع مستوى التمثيل في قمة الرياض “على خلفية رغبة الصين في الابتعاد عن القيادة الإيرانية بسبب قسوة طهران العلنية في التعامل مع المحتجين”.
توسع ناصر كنعاني المتحدث باسم الخارجية الإيرانية في شرح موقف حكومته. فقال جازماً في أول إطلالة له بعد صدور بيان الرياض، “ندين الاتهامات التي لا أساس لها المطروحة في البيان (حول التدخل في دول الجوار). نرفض المزاعم في البيان حول أنشطة إيران النووية. لا نسمح لأحد بالتدخل في شؤون إيران الداخلية ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية”.
من يتابع تسلسل المواقف الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين يتيقن من أمرين، الأول أن التقارب المطرد الصيني- العربي أحدث هزة في نظام اعتقد بأن توطيد علاقته ببكين سيجعلها في صفه ضد أي طرف آخر، والثاني أن أي تبن دولي للحقوق الشرعية العربية ولو في حدود القوانين الدولية لن يكون ملائماً للمشروع الإيراني في جوهره النووي والتوسعي المذهبي.
أبلغت وزارة الخارجية الإيرانية احتجاجها إلى السفير الصيني في طهران، لكنها لم تجرؤ على استخدام تعبير استدعاء السفير لتسليمه الاحتجاج الذي كان صرح به الوزير حسين عبدالأمير اللهيان، وتحدثت عن “حضوره” للاجتماع مع المسؤولين في الوزارة.
وقعت طهران في مأزق جديد في وقت كانت الانتفاضة ضد النظام تتعاظم والقمع يشتد في ظل خطاب التخوين واتهام مئات آلاف المواطنين بالتخريب والعمالة. تعمق المأزق مع تضييق الخناق الدولي على السلطات الإيرانية رفضاً لسياساتها وبسبب الاتهامات الموجهة إليها لتزويدها روسيا بمسيّرات وصواريخ تستخدم في حرب أوكرانيا.
كانت إيران تعتقد، أو هي توهمت، بأن بإمكانها الاستفادة من زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية لتخفيف العبء عنها. لقد أملت في أن الصين لن تتبنى مواقف تتناولها مباشرة وتمنت أن تزيد الزيارة في توسيع ما تعتقده شرخاً في العلاقات الأميركية – السعودية يمكنها الاستفادة منه.
وعبرت وكالة “مهر نيوز” الرسمية عن هذه الرغبة الإيرانية في تحليل واكب القمم العربية- الصينية قالت فيه، “في وقت انعقاد القمة كانت وسائل الإعلام الأميركية تنشر تقارير عن نية الكونغرس معاقبة السعودية على سياستها النفطية، فضلاً عن دورها في حرب اليمن، مما يسهل ربط تسارع وتيرة الإعلام الأميركي في الكشف عما يحضر للسعودية بتداعيات الزيارة الصينية على العلاقة السعودية – الأميركية المتأزمة أصلاً”.
كانت واضحة رغبة إيران بتأزم في العلاقات بين واشنطن والرياض ورهانها على زيارة شي جينبينغ في تحقيق ذلك. إلا أن شيئاً من ذلك لم يحصل وذهبت الصين في الاتجاه الذي أغضب ملالي طهران بدلاً من أن تلبي رغبتها في إثارة الفوضى في “معسكر الخصوم”.
كان يمكن لكل ما حصل أن يمر طبيعياً ومن دون ضجيج لو لم يسارع خصوم الملالي إلى طرح التساؤلات عن معنى التفاهم الصيني- الإيراني وطبيعة اتفاق ربع القرن بين بكين وطهران وسياسة الذهاب شرقاً التي ابتدعها ساسة خامنئي ونفخ في بوقها مريدوه من بيروت إلى صنعاء.
كانت عناوين الصحف الإيرانية وتحليلاتها معبرة خلال هذه الأزمة المستجدة. قالت إن الصين لا تفكر إلا بمصالحها. ووصفتها بـ”الجفاء” وتساءلت “ماذا تخطط الصين في الشرق الأوسط”، وإذ تحدثت عن “الصدمة الصينية”، اكتشفت “تحولاً ذا معنى من الصين تجاه الرياض”.
رأت إحدى الدوريات الإيرانية (سازندكي) أن “هذا السلوك الصيني كان متوقعاً، ومن الواضح أن سياسة التعويل والاعتماد الكامل على دولة أخرى ستكون فاشلة ومعروفة المصير”. وطالبت الصحيفة التيار الأصولي الحاكم بتحمل مسؤوليته تجاه هذا الوضع “بعد إفساده علاقات إيران بالغرب وجعله البلاد تتجه بالكامل إلى الصين” التي “في حال تطلبت مصالحها فإنها ستكون مثل أميركا، ولن تتردد في معاداة إيران ومواجهتها”.
كان أسبوعاً إيرانياً متوتراً في وجه الصين، أسبابه المباشرة في التزامات الصين تجاه العالم العربي، لكن أسبابه غير المباشرة، أو المضمرة، ربما تكون في حاجة النظام الإيراني إلى مشكلة “قومية” يشغل بها مواطنيه، تغطية لسياسة القمع والإعدامات ضد الشعب الإيراني، فكانت “الحملة الصينية” ملائمة لتحويل الأنظار وبث الرسائل في أكثر من اتجاه.
اندبندت عربي