تتعلق علاقات القدس بموسكو جزئيا بالأمن. لكنها تتعلق أيضًا باللاليبرالية. ويبدو أن الانتماءات السياسية القائمة على القومية، والهوية، وكراهية الليبرالية، والعداء للمسلمين لعبت دورًا في دفع علاقات إسرائيل مع كوكبة من الدول غير الليبرالية -لا سيما روسيا، والمجر، وبولندا، والهند، والبرازيل في عهد الرئيس السابق جاير بولسونارو. وبطبيعة الحال، لا تسير هذه الصلات دائمًا في الاتجاه نفسه. فبولندا هي داعم رئيسي لأوكرانيا، وقد أثبتت قيمتها الهائلة فيما وصفه الرئيس الأميركي، جو بايدن، بأنه صراع بين الديمقراطية والاستبداد. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن قادة “حزب القانون والعدالة” الحاكم في بولندا يشتركون في العديد من جوانب نظرة بوتين، إلا أن البلد ما تزال ديمقراطية غير ليبرالية، وإسرائيل تذهب في الاتجاه نفسه.
عندما كان الرئيس الأميركي الأسبق، جون كينيدي، عضوًا في الكونغرس في الخمسينيات، كان من بين مجموعة من الأعضاء التشريعيين في مجلس النواب ومجلس الشيوخ الذين سعوا إلى إنهاء حظر الأسلحة الأميركي الذي كان مفروضًا على إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك الضغط، لم يتزحزح الرئيس دوايت أيزنهاور عن موقفه، معتقدًا أن “الإعلان الثلاثي” الذي صدر في العام 1950 -الذي وافقت فيه الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة على عدم بيع الأسلحة إلى المتحاربين الإقليميين- كان أفضل طريقة لمنع نشوب الحرب في الشرق الأوسط. وعندما انتُخب كينيدي رئيسًا، قام بخرق الاتفاق وباع أنظمة الدفاع الجوي الأميركية الصنع من طراز “هوك” للدولة اليهودية، وهو القرار الذي شكل بداية العلاقة الدفاعية بين الولايات المتحدة وإسرائيل كما أصبح العالم يعرفها.
في منتصف كانون الثاني (يناير) الماضي، طلبت إدارة بايدن من إسرائيل إرسال أنظمة “هوك” التي تعود إلى فترة الخمسينيات، والتي كانت منذ ذلك الحين مكدسة في المخازن، إلى كييف لمساعدة الأوكرانيين على الدفاع عن أنفسهم ضد وابل من الصواريخ الروسية والطائرات الإيرانية من دون طيار. وقيل إن الإسرائيليين رفضوا هذا الطلب.
كان هذا قرارًا مذهلاً تتخذه دولة تمتعت بمبلغ 107,806,200,000 دولار من المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة في الفترة بين العامين 1946 و2021، والتي يضطر سكانها (مثلهم مثل سكان أوكرانيا) إلى العيش تحت تهديد الصواريخ والقذائف والطائرات من دون طيار -التي يُشتق عدد منها أيضًا من التكنولوجيا الصاروخية الإيرانية. وقد واصل قادة إسرائيل “حربهم بين الحروب” -مهاجمة الإيرانيين ووكلائهم في سورية، وأحيانًا في العراق، لضمان بقاء السكان الإسرائيليين آمنين- بما في ذلك الهجوم الذي شُن على منشآت إيرانية في نهاية الأسبوع قبل الماضي، الذي ورد أن المسؤولين الأميركيين نسبوه إلى “الموساد”، جهاز المخابرات الإسرائيلي. ومع ذلك، يبدو في الوقت نفسه أن الإسرائيليين ينكرون، حتى التكنولوجيا القديمة وغير المستخدمة للدفاع الصاروخي على الأوكرانيين لتأمين سكانهم هم أيضًا.
ومع ذلك، لا ينبغي أن يندهش أحد من قرار إسرائيل الواضح بالتمسك بالصقور.
منذ قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا قبل عام تقريبًا، لعبت الحكومة الإسرائيلية -على نحو يشبه كثيرًا سلوك الحكومة التركية- لعبة مزدوجة، حيث قدمت دعمًا خطابيًا لاستقلال أوكرانيا وقدمت مساعدات إنسانية إلى كييف. ولكن، كان الأتراك على الأقل مستعدين لبيع الأسلحة للأوكران. وفي المقابل، يتجنب الإسرائيليون بحرص بالغ انتهاج أي سياسات يكون من شأنها أن تضر بالعلاقات بين القدس وموسكو.
والسبب الرئيسي الكامن وراء هذا الموقف هو الأمن. فللروس تواجد كبير في سورية ومجالها الجوي. وحتى تتمكن إسرائيل من ملاحقة قوات الحرس الثوري الإسلامي الإيراني أو وكلائه على الأراضي السورية، يحتاج الطيارون الإسرائيليون إلى فض اشتباك مع الروس. وكان بوتين سعيدًا في الغالب بمنح هذه الميزة للإسرائيليين، لأنه على الرغم من اتفاقه مع المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي على ضمان بقاء نظام الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة، فقد أراد الروس أيضًا ضمان أن يكون الإيرانيون هم الشريك الأصغر في هذا الجهد. وقد عززت الضربات الإسرائيلية الدورية والمدمرة ضد الحرس الثوري الإيراني، بموافقة هادئة من الكرملين، هذا النهج الذي اتبعه بوتين.
ولكن، حتى لو كان جزء كبير من العلاقة بين إسرائيل وروسيا يدور حول سورية والأمن، فإن هناك ما هو أبعد وأكبر من هذه العلاقات. يعرِّف قادة إسرائيل بلدهم، بشكل انعكاسي آليّ تقريبًا، على أنه دولة ديمقراطية وجزء من الغرب الليبرالي، لكن النظرة العالمية مهمة. فمع تحرك السياسة الإسرائيلية بثبات نحو اليمين تحت إشراف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أقامت القدس علاقات مع دول لا تندرج في أي من هاتين الفئتين.
الآن، يبدو أن الانتماءات السياسية القائمة على القومية، والهوية، وكراهية الليبرالية، والعداء للمسلمين، لعبت كلها دورًا مهمًا في دفع علاقات إسرائيل مع كوكبة من الدول غير الليبرالية -بشكل خاص روسيا، والمجر، وبولندا، والهند، والبرازيل في عهد الرئيس السابق جاير بولسونارو. وبطبيعة الحال، لا تسلك هذه الصلات دائمًا الطريق نفسه ولا تسير في الاتجاه نفسه. فبولندا هي داعم رئيسي لأوكرانيا، وقد أثبتت قيمتها الهائلة في ما وصفه الرئيس الأميركي، جو بايدن، بأنه صراع بين الديمقراطية والاستبداد. مع ذلك، وعلى الرغم من أن قادة “حزب القانون والعدالة” الحاكم في بولندا يشتركون في العديد من الخصائص مع نهج بوتين، إلا أن بلدهم يظل ديمقراطية غير ليبرالية، وهو الاتجاه نفسه الذي تسلكه إسرائيل.
لا يبدو بنيامين نتنياهو محاربًا ثقافيًا طبيعيًا بالفطرة، وهو يفضل التأكيد على الأمن وعلى إظهار مدى براعته في توفيره للإسرائيليين، لكنه أظهر في لحظات الأزمات استعداده لاستخدام الرسائل السياسية العنصرية، وإلقاء مصيره مع السياسيين غير الليبراليين. في محاولة الحصول على أصوات الناخبين في العام 2015، على سبيل المثال، حذر نتنياهو الإسرائيليين اليهود في رسالة عبر “فيسبوك” من أن “الحكومة اليمينية في خطر. الناخبون العرب يخرجون بأعداد كبيرة إلى صناديق الاقتراع. والمنظمات اليسارية تنقلهم (إلى مراكز الاقتراع) بالحافلات”. وبطبيعة الحال، أقام في الآونة الأخيرة قضية مشتركة مع اليمين القومي وغير الليبرالي والديني في إسرائيل، الذي يتقاسم قادته الميول الأيديولوجية نفسها لليمين العالمي -الذي يقوده الرئيس الروسي نفسه.
من الواضح تماماً أن وزير الأمن العام الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وآفي ماعوز -نائب الوزير في مكتب رئيس الوزراء الذي يبدو أن حقيبته تتعلق فقط بتعزيز تفسيره الخاص للهوية اليهودية- ليس لديهم أي التزام واضح بالديمقراطية. ويبدو أن هؤلاء المسؤولين مهتمون أكثر بالاستفادة من الممارسات الديمقراطية الإسرائيلية لتعزيز أجندتهم غير الديمقراطية. وعلى الرغم من أن ائتلاف نتنياهو يتكون من أحزاب حصلت مجتمعة على أصوات أقل من الأحزاب الأخرى، إلا أن بن غفير وسموتريتش وماعوز وغيرهم يتصرفون كما لو أن لديهم تفويضًا شعبيًا ساحقًا بإمالة موازين السلطة لصالح الكنيست، حيث يتمتعون هم وحلفاؤهم حاليًا بأغلبية ضئيلة.
ركزت الصحافة بقدر لا بأس به من العناية على مصلحة نتنياهو الضيقة في إجراء تغييرات على القوانين، والتي سيكون من شأنها أن تسمح له بالهروب من الملاحقة القضائية بتهمة الفساد. ومن إحدى زوايا النظر، سيكون هذا أقل ما يمكن أن يفعله شركاء رئيس الوزراء من أجله مقابل السماح لهم بتغيير كيفية اختيار قضاة المحكمة العليا، ومنح الهيئة التشريعية الإسرائيلية سلطة نقض قرارات أعلى محكمة في البلاد. وقد يسمح هذا التغيير للحكومة أيضًا بتوسيع السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وتقويض حقوق الإسرائيليين غير اليهود، ووضع الهوية الإسرائيلية بقوة في إطار نسخة أرثوذكسية محددة لما يُرى أنه يشكل اليهودية. وسيشمل ذلك إجراء تغيير كبير في “قانون العودة” الإسرائيلي، الذي كان حاسمًا في ربط اليهود في جميع أنحاء العالم بإسرائيل. وإضافة إلى ذلك، فإن البيئة الإسرائيلية المتسامحة مع مجتمع المثليين تصبح في خطر، حيث يتعهد ماعوز -الذي يتبنى علنًا وجهات نظر معادية للمثليين- بمتابعة أجندة مناهضة للمثليين والمتحولين جنسيًا، وهي سمة مميزة لليمين العالمي غير الليبرالي أيضًا.
إن ما يحدث (أو ما قد يحدث) في إسرائيل يتماشى مع ما حدث في دول أخرى غير ليبرالية، بما في ذلك روسيا نفسها. فقد أفرغ السياسيون المؤسسات من محتواها، وضغطوا عليها، وقوضوها من أجل تأمين وتقوية سلطتهم وقاموا باتباع سياسات غير ليبرالية باسم قضية أكبر ظاهريًا، لا سيما القومية، والهوية، والدين. وفي الحقيقة، لطالما واجه النظام السياسي الإسرائيلي صعوبة في التوفيق بين المبادئ الديمقراطية والقومية العرقية الدينية التي تشكل إلى حد كبير جزءًا أصيلاً من الصهيونية.
على مدى الجزء الأكبر مما يقرب من 75 عامًا، سعى الإسرائيليون إلى إدارة التناقضات والمشاكل التي أفرزتها هذه الدوافع المتنافسة، لكن الحكومة الجديدة لا توجه أي اهتمام إلى إدارتها. وبدلاً من ذلك، تسعى هذه الحكومة إلى تعزيز دولة يهودية معلنة بهذه الصفة، تستند إلى فهم معين لليهودية لا يحاول أن يستوعب أولئك الذين يقعون خارج فئة اليهودية المقبولة.
وهكذا، تسير إسرائيل على مسار سياسي يضعها بين الدول غير الليبرالية في العالم. وسيكون من غير الدقيق الإيحاء بأن إسرائيل تماثل روسيا تمامًا، التي هي مثل الهند تمامًا، والتي تشبه المجر تمامًا. ومع ذلك، فإن القادة في كل هذه البلدان يشتركون في نظرة متماثلة حول كيفية تنظيم مجتمعاتهم. ولذلك، نعم، صحيح أن علاقات القدس مع موسكو متشابكة مع مخاوفها الأمنية وحالة الطوارئ التي يصنعها وجود إيران في سورية. ولكن، بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أن إسرائيل ديمقراطية ذات توجه غربي، يجب ملاحظة أن علاقاتها مع روسيا وغيرها من الدول غير الليبرالية تظل أكثر ترابطًا، من الناحية المنطقية، من ذلك بكثير.
- الغد