يُشير التحول في سياسة بوتين الخاصة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى أن هناك جهودًا تبذل لتمهيد الطريق أمام نجاح مساعي أردوغان الانتخابية.
ويبدو من العلاقات الوثيقة بين بوتين وأردوغان، على الرغم من التصادم في أكثر من نقطة، أن أردوغان يظل شخصية مألوفة بالنسبة لموسكو، مما يجعل إعادة انتخابه احتمالًا جذابًا. على سبيل المثال، يعيش كل من بوتين وأردوغان على استخدام التاريخ والذاكرة الإمبراطورية كوسيلة لتسويق سياساتهما.
ويتشابه الرجلان في الصعود من خلال الانخراط في قيادة الأحزاب المحلية في زمن الانهيار الاقتصادي للبلدين، ومن ثم القبض على الحكم من خلال السيطرة على المركز الأعلى للنفوذ في البلدين.
* *
يشكل مبدأ حماية المكتسب، الذي يتركز على عقيدة عدم السماح بخسارة أي مُكتسب في الساحة الدولية، إحدى أهم ركائز السياسة الخارجية الروسية في عهد بوتين.
هذه الذهنية التي تتمسك بالمكتسبات والتحالفات، تدفع روسيا إلى مراقبة الانتخابات المقبلة في تركيا بالكثير من الجدية والانخراط؛ حيث تحاول التماهي مع التطورات الكثيرة في دول الشرق الأوسط لتجد لنفسها دورا فعالا فيها على حساب الآخرين المناوئين لها. في الآونة الأخيرة، تُظهر السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قلقًا خاصًا من جانب روسيا في ما يتعلق بنجاح أردوغان في العملية الانتخابية المقبلة. وفي السياق نفسه، هناك العديد من الصفات المشتركة بين بوتين وأردوغان، والتي تتعلق بطبيعة الحكم والممارسة، على الرغم من كون الأخير خصمًا تكتيكيًا متكررًا لروسيا. ومن الجدير ملاحظة أن القرارات السياسية الأخيرة مهدت الطريق أمام أردوغان للبقاء في السلطة مرة أخرى.
هذا السياقات المُتقاربة تدفع الروس إلى تمرير الدعم المطلوب والمناسب للحالة الانتخابية في تركيا لأردوغان، وبالسلاسة المطلوبة. ويبدو أن فريق الحكم في موسكو مُتلهف بدرجة كبيرة لبقاء صعود نجم أردوغان في أنقرة، ولو كان هذا البقاء لا يعني انحناء القائد التركي المتذبذب والبراغماتي والسلطوي، ودخوله في العباءة الروسية بصورة تامة. لكن بقاءه، حسب المنظر الروسي، هو وسيلة ضمان أساسية لتوازن المصالح الروسية لمدة خمس سنوات مقبلة مع طرف إقليمي له صلات مع “الناتو”، والذي يمتاز بجغرافية مجاورة، ونقاط عسكرية متقاربة في قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا.
إضافة إلى ذلك، تجلت الجهود المبذولة من قبل روسيا لدعم أردوغان في التغطية الإعلامية للزلزال المدمر الأخير الذي ضرب تركيا. فحتى الآن، عمدت وسائل الإعلام الروسية إلى التركيز على جهود المساعدات الروسية، ولم تتضمن في الحقيقة أي تغطية سلبية للطريقة التي تعاطت بها حكومة حزب العدالة والتنمية مع الزلزال، وذلك على الرغم من حالة الغضب المتزايدة في تركيا بسبب غياب المساءلة في عملية تطبيق قوانين البناء، والفشل في تنسيق جهود الإغاثة بعد وقوع الزلزال. وجاء في بيان صادر عن الكرملين بتاريخ 6 شباط (فبراير) 2023، أن السيد بوتين “عبر عن تعازيه الحارة” للرئيس التركي مباشرة. ونقلت وكالات الأنباء عن وزير الطوارئ الروسي، ألكسندر كورينكوف، قوله: “إن وزارة الطوارئ الروسية مستعدة دائمًا لمد يد العون للدول الصديقة في المحن”، ويقصد بالدول الصديقة تركيا. كما ركزت وكالة “روسيا اليوم” على إظهار إنجازات فرق الإنقاذ التركية. وورد خبر على موقعها بتاريخ 17 شباط (فبراير) يذكر نجاح “فرق الإنقاذ التركية في إخراج طفل من تحت أنقاض منزله، بعد مضي 260 ساعة على وقوع الزلزال”. وفي حين أصبح احتمال إجراء الانتخابات في تركيا في موعدها يثير التساؤلات الآن، فإن الطريقة التي تعاملت بها روسيا مع زلزال تركيا تعكس تفضيلات بوتين، كما يظهر هذا التعاطي أيضًا في القرارات السياسة التي اتخذتها موسكو خلال الأشهر الماضية.
تشابه الرجال الأقوياء
يبدو من العلاقات الوثيقة بين بوتين وأردوغان، على الرغم من التصادم في أكثر من نقطة، والذي وصل إلى حد إسقاط تركيا طائرة عسكرية روسية في سورية بعملية استهداف مباشرة، وقتل الروس لجنود أتراك في سورية، ووقوع صدامات دموية بين حلفاء الطرفين في ليبيا وأوكرانيا والقوقاز، أن أردوغان يمثل شخصية مألوفة بالنسبة لموسكو، مما يجعل إعادة انتخابه احتمالًا جذابًا. على سبيل المثال، يعيش كل من بوتين وأردوغان على استخدام التاريخ والذاكرة الإمبراطورية كوسيلة لتسويق سياساتهما. ويتشابه الرجلان في الصعود من خلال الانخراط في قيادة الأحزاب المحلية في زمن الانهيار الاقتصادي للبلدين، ومن ثم القبض على الحكم من خلال السيطرة على المركز الأعلى للنفوذ في البلدين.
إضافة إلى ذلك، كانت التكتيكات التي استخدمها كل من بوتين وأردوغان للبقاء في السلطة مُتقاربة إلى درجة كبيرة، حيث استطاع بوتين تغيير الدستور لصالحه وفتح الطريق لنفسه للعودة إلى الحكم من خلال إطالة مدة المكوث في الرئاسة بعد استراحة في رئاسة الوزراء، وهو ما قام به أردوغان من خلال توسيع صلاحيات الرئاسة وفتح الباب لنفسه فيها، وإطالة مدة الحكم، ثم القفز بعد ذلك إليه بعد انتهاء فرصة البقاء في رئاسة الوزراء. وقد استخدم الرجلان قادة طيعين من حزبيهما لتمرير هذه السياسة، الأول مدفيديف والثاني بن علي يلدرم.
ملامح الدعم الإقليمي الروسي لأردوغان
من الجدير بالملاحظة أنه في الوقت الذي يحاول فيه أردوغان تحقيق مكاسب في عدد من ملفات السياسة الخارجية بهدف تعزيز حملته وإعادة انتخابه، أثبتت روسيا أنها قادرة على السماح لأنقرة بالتدخل والمرور حتى عبر المناطق التي تشهد توترات كبيرة. وفي هذا السياق، عمل بوتين على تخفيف الضغط على الوجود التركي وعلى حليف تركيا في طرابلس بليبيا من خلال لجم عدائية حفتر ورجاله ضد ما تسمى “حكومة الوحدة الوطنية” بقيادة عبد الحميد الدبيبة. وبذلك، أسهمت تلك الجهود في تخفيف حدة الصدام المباشر مع حلفاء روسيا في شرق ليبيا خلال الفترة التي سبقت الانتخابات، مما سمح لأردوغان بالإشارة إلى الملف الليبي باعتباره نقطة نفوذ مستمرة لأنقرة.
كما تمتد هذه السياسة أيضًا إلى الملف السوري، حيث تحاول روسيا الضغط على حكومة الأسد لتَقبل بتمرير رغبة أردوغان في إظهار انفتاحه على حكومة الأسد “هذه الأيام”، وذلك على الرغم من سنوات الكراهية بينهما. وبطبيعة الحال، ستتأثر تلك العملية بأحداث الزلزال الأخير الذي ضرب تركيا. من جهته، يرغب أردوغان في سحب ملف إعادة اللاجئين السوريين من تركيا إلى بلادهم من يد المعارضة التركية التي تتهمه بالتسبب بهذه اللازمة، وتأجيج الصراع السوري، وبالتالي تأزيم الاقتصاد التركي. وبالمثل، تهدف تلك الجهود إلى إرضاء القاعدة الشعبية التركية الكارهة للوجود السوري في تركيا، والراغبة في الانفتاح على الأسد لتسهيل عودة اللاجئين.
يبقى من الجدير التذكير بالترويج الإعلامي الروسي الواسع لصالح رغبة الروس في تحويل تركيا إلى معبر أساسي لإمداد الغرب بالطاقة، وتحويلها إلى مركز رئيسي لتوزيع الغاز الروسي إلى الخارج. كما تعمل روسيا على مساعدة الاقتصاد التركي على الانتعاش من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية والتسويق الداخلي لفوائد السياحة في تركيا، حيث تُظهر الأرقام زيادة كبيرة في عدد السياح الروس في العام 2022 على العام السابق. كما قدمت روسيا الكثير من روايات النصر لصالح أردوغان منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا من خلال إبرام “صفقة الحبوب” الشهيرة، ومن خلال عرض الرجل على أنه صانع سلام يستطيع إقامة التوازن بين وجوده داخل “الناتو” وعلاقاته مع موسكو، ولصالح الأمن الغذائي والعالمي.
سوف يزيد نمط التفكير السياسي في موسكو الذي يتبنى دعم أردوغان من توجه الرئيس التركي إلى الانفتاح على المحور الروسي، في تضاد مع سياسات الناتو التي لا تتناسب مع نمط حكمه. ويظهر الخطر الأكبر من هذه الناحية أن هذا التقارب والهدايا البوتينية سيدفعان أردوغان إلى التناقض مع السياسات الغربية والأميركية بالتحديد، ومع حلفائهم المحليين في الشرق الأوسط، وبشكل خاص في سورية، وليبيا، وإيران، والعراق، والصومال. ويؤدي استغلال بوتين لهذا النمط من التفكير السلطوي والأوتوقراطي للزعيم التركي، إلى المزيد من تفرد أردوغان في قراراته، وعدم الثبات في علاقات بلاده مع الغرب. ومن الواضح أن موسكو ستكون سعيدة بانخراط تركيا في التكتلات التي تتبلور في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لصالح التحالف الروسي الصيني، إضافة إلى تعزيز ظهور بوتين كلاعب ماهر في منطقة الشرق الأوسط، حيث يحدد نظراءه، ويتدخل في تأمين حصانتهم من الهزيمة، ويقدم لهم ما يحتاجونه عند الضرورة لاستمرارهم.
قد يكون هذا الوضع جاذباً للعديد من القادة الإقليميين وليس لأردوغان فقط، خاصة إذا تركوا من دون رادع. وهكذا، من المرجح أن تدفع مبادرات بوتين الكثير من الجهات الحاكمة المحلية في الشرق الأوسط إلى التوجه أكثر نحو موسكو للحصول على الرعاية والحصانة نفسهما، خاصة بعد ترسيخ صورة الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط منذ كارثة أفغانستان، وعدم اهتمام أميركا بالكثير من القضايا الإشكالية والرئيسية في الشرق الأوسط، مثل عدم الانخراط في عملية إنهاء الصراعات في ليبيا واليمن وسورية، وعجزها عن إيجاد مسارات لفتح قنوات حل للقضايا العالقة في الدول الفاشلة الأخرى كالعراق ولبنان. وعلى هذا النحو، ينبغي على الولايات المتحدة الأميركية فهم السياسة الروسية الحالية والتصدي لها في مسارات مرتبطة بدعم باقي الشركاء والحلفاء، وتعزيز مواقعهم وضبط البوصلة التركية لتغير سلوكها وإعادة توجيها نحو التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
الغد