على الرغم من إصدار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي مذكرة التوقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لاتهامه بتهجير أطفال من أوكرانيا، فإن تطبيقها مستبعد لاعتبارات عدة، لكن ذلك ستكون له تداعيات على الأقل في الداخل الروسي، وتحديداً في الدائرة المحيطة ببوتين، بحسب ما يعتقد البعض.
وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية، في 17 مارس/آذار الحالي، مذكرة توقيف بحق بوتين والمفوضة الروسية لحقوق الطفل ماريا لفوفا-بيلوفا، على خلفية “جريمة الحرب المفترضة المتمثلة في الترحيل غير القانوني لأطفال من المناطق المحتلّة في أوكرانيا إلى روسيا الاتحادية” منذ بدء الغزو في 24 فبراير/شباط 2022. ورُحِّل أكثر من 16 ألف طفل أوكراني إلى روسيا منذ بدء الغزو، وفق كييف، ووُضِع كثير منهم في مؤسّسات ودور رعاية.
انقسام المجتمع الدولي
وفي الوقت الذي صادق فيه أكثر من 120 بلداً على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن هذه القائمة لا تقتصر على الدول الغربية، بل تشمل أيضاً عدداً من الدول في أفريقيا وأميركا اللاتينية، وحتى جمهورية طاجكستان السوفييتية السابقة المتحالفة مع روسيا، شأنها في ذلك شأن أرمينيا، بعد موافقة محكمتها الدستورية، أول من أمس الجمعة، على المصادقة على نظام المحكمة.
سيرغي غولوبوك: صدور مذكرة التوقيف بحق بوتين سيعيق سفره إلى الدول الغربية، لكنه لا يعني أنه سيُعتقل تلقائياً
لكن لم يمر أسبوع على صدور مذكرة التوقيف بحق بوتين، إلا وبدأت دول بعينها صادقت على نظام روما، وفي مقدمتها جنوب أفريقيا والمجر، تبدي تأنياً مسبقاً في الالتزام بالقرار، حتى في حال حضور بوتين إلى أراضيها.
وذكرت وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، الجمعة الماضي، أن حكومة جمهورية جنوب أفريقيا تجري استشارات سياسية حول كيفية التعاطي مع مذكرة التوقيف بحق بوتين، أثناء حضوره المرتقب إلى قمة مجموعة دول “بريكس” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، المقرر عقدها في جنوب أفريقيا في أغسطس/آب المقبل.
ونقلت الوكالة عن مسؤولَين في وزارة خارجية جنوب أفريقيا، فضّلا عدم ذكر اسميهما، قولهما إن الحكومة وحزب “المؤتمر الوطني الأفريقي” الحاكم ينظران في كل الخيارات من أجل تجنب الالتزام بالمذكرة. من جهته، أكد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، في تصريحات صحافية، أنه لم يُبت بعد في مسألة توجه بوتين إلى جنوب أفريقيا من عدمه.
وفي المجر، أعلن مدير مكتب مجلس الوزراء غيرغلي غولياش، الخميس الماضي، أن بودابست لم تصادق على ذلك القسم من نظام المحكمة الجنائية الدولية الذي يجعل مثل هذا التوقيف (أي توقيف بوتين) إلزامياً، نظراً لتعارضه مع دستور البلاد.
في المقابل، أكد وزير العدل الألماني ماركو بوشمان استعداده لتنفيذ مطلب المحكمة الجنائية الدولية، وتوقيف بوتين في حال “خطت قدمه الأرض الألمانية“، ما أثار رد فعل غاضباً من الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن دميتري ميدفيديف، الذي اعتبر في حديث صحافي، أخيراً، أن اعتقال بوتين سيكون بمثابة إعلان حرب على روسيا، متوعداً بقصف البوندستاغ (البرلمان الألماني) في هذه الحالة.
لا حصانة رئاسية
وقال المحامي الروسي سيرغي غولوبوك، المصرح له بالعمل في المحكمة الجنائية الدولية، إن صدور مذكرة التوقيف بحق بوتين سيعيق سفره إلى الدول الغربية، لكنه لا يعني أنه سيُعتقل تلقائياً في حال توجهه إلى دولة صادقت على نظام روما، في ظل انعدام أدوات الجنائية الدولية لمحاسبة الدول المخالفة للقرار.
وشرح غولوبوك، في حديث لـ”العربي الجديد” من لاهاي، هذا الأمر، قائلاً: “يلغي نظام روما صراحة حصانة قادة الدول التي يسري مفعولها في العلاقات الثنائية فقط، أي منع دولة من مساءلة رئيس دولة أخرى، ولكن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة فوق وطنية. ولذلك يترتب على مذكرة التوقيف منع بوتين من السفر إلى العديد من دول العالم، وفي مقدمتها الدول الأوروبية وكندا والبرازيل التي ستلتزم على الأرجح بقرار الجنائية الدولية”.
ومع ذلك، أقرّ غولوبوك بأن صدور مذكرة التوقيف لا يعني أن بوتين سيُعتقل في حال سفره إلى الخارج. وأضاف: “في حال حضر بوتين إلى طاجكستان مثلاً، يتعين على جهاتها الأمنية توقيفه وتسليمه إلى لاهاي. وإذا لم يحدث ذلك، فهذا سيعني أن طاجكستان أخلت بالتزاماتها الدولية بموجب نظام روما من دون أن يؤدي ذلك إلى مساءلتها”.
ويستشهد غولوبوك في ذلك بسابقة الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، الذي كان يسافر بعد صدور مذكرة توقيف بحقه إلى بلدان صادقت على نظام روما، مثل جنوب أفريقيا، من دون أن يُعتقل، وسط تعبير المحكمة الجنائية الدولية عن سخطها فقط.
وحول رؤيته لاختيار المحكمة البدء بملاحقة بوتين بتهمة تهجير الأطفال تحديداً، أعرب عن اعتقاده بأن “المحكمة الجنائية الدولية بدأت التحقيقات بموجب هذه التهمة لسببين رئيسيين، أولهما قدسية الأطفال والإجماع على ضرورة حمايتهم، وثانيهما إقرار السلطات الروسية نفسها بنقل أطفال، وهذه جريمة حرب من وجهة نظر القانون الدولي. وليست هناك عوائق أمام توجيه تهم جديدة، وإضافتها إلى مذكرة التوقيف الحالية، أو إصدار مذكرات أخرى فيما بعد”.
شق صف النخبة الروسية
وإذا كان اعتقال بوتين مستبعداً في ظل هذه الظروف، إلى جانب امتناع سيد الكرملين عن السفر إلى الدول المصنفة “غير صديقة” منذ بدء الحرب في أوكرانيا حتى قبل صدور المذكرة، فإن ذلك لا يعني أن أمر الاعتقال لن تكون له ارتدادات داخل روسيا.
أليكسي كرابوخين: مذكرة التوقيف تجعل بوتين شخصية سامة للمحيطين به
وبرأي عضو المجلس الإقليمي لحزب “يابلوكو” (تفاحة) الليبرالي المعارض أليكسي كرابوخين، الذي تحدث مع “العربي الجديد”، فإنّ “الرسالة الرئيسية من صدور مذكرة التوقيف بحق بوتين تكمن في نسف مكانته على الساحة الدولية، وليس في الغرب فقط”.
ولفت إلى أنه “على عكس البلدان الآسيوية، فإن أغلب الدول في أميركا اللاتينية وأفريقيا صادقت على نظام روما، ما يعني أن هذه الدول ستفكر كثيراً قبل استقبال بوتين، حتى إذا لم يُعتقل أثناء الزيارة المرتقبة إلى جنوب أفريقيا”.
واعتبر كرابوخين أن مذكرة التوقيف تهدف أيضاً إلى إحداث انقسامات وسط النخب الروسية. وأشار إلى أن “مذكرة التوقيف تجعل بوتين شخصية سامة للمحيطين به، وإصدار مذكرة مماثلة بحق المفوضة الروسية لحقوق الطفل ماريا لفوفا-بيلوفا، يعكس أن المحكمة لن تلاحق الشخصية السياسية الرئيسية فحسب، وإنما أيضاً المنفذين”.
الالتفاف حول القائد أو الهروب
بدوره، اعتبر الخبير في شؤون أوروبا الشرقية والوسطى إيفان بريوبراجينسكي، هو الآخر، أن مذكرة التوقيف بحق بوتين تضع الشخصيات المحيطة به أمام خياري الالتفاف حول قائدهم أو الهروب قبل فوات الأوان. وقال بريوبراجينسكي، في حديث لـ”العربي الجديد” من العاصمة التشيكية براغ: “أثق بأن قرار المحكمة في لاهاي لم يشكل مفاجأة للرئيس الروسي نفسه، وهو يعتبره تأكيداً لشبهاته في أن الغرب يريد التخلص منه بشتى الطرق”.
ووفقاً للخبير، فإن إدراج لفوفا-بيلوفا على قائمة المطلوبين يشكل رسالة للنخب المحيطة ببوتين. وأضاف: “ليس من الصعب أن نتصور ماذا يدور في ذهن ذلك القسم من النخبة الروسية الذي يأمل في الحفاظ على رؤوس أمواله ونفوذه في مرحلة ما بعد بوتين، بصرف النظر عن نتائج الحرب. وجّهت إلى هؤلاء رسالة مفادها بأنه لا مفر من المسؤولية الشخصية، ما يضعهم أمام خيارين، إما الالتفاف حول العلم، أي بوتين، أو الهروب قبل فوات الأوان”.
واقترح رئيس البرلمان الروسي فياتشيسلاف فولودين عبر “تليغرام”، أمس السبت، حظر إجراءات المحكمة الجنائية الدولية في البلاد. وقال إنه يتعين تعديل الدستور الروسي لحظر أي نشاط للمحكمة الجنائية الدولية في الدولة ومعاقبة أي شخص يقدم “المساعدة والدعم” للمحكمة.
وأضاف: “من الضروري إجراء تعديلات للقوانين تحظر أي نشاط للمحكمة الجنائية الدولية على أراضي بلدنا”، مضيفاً أن الولايات المتحدة سنت قوانين تمنع محاكمة مواطنيها أمام المحكمة التي تتخذ من لاهاي مقراً، وأنه يتعين على روسيا فعل المثل. واعتبر أن أي مساعدة أو دعم للمحكمة الجنائية الدولية داخل روسيا ينبغي أن يعاقب عليها القانون.
العربي الجديد