من البدع التي أنتجها الديمقراطية في العراق، أن تجري كل انتخابات لمجلس النواب وفق قانون مختلف، «يُشرّع» بمناسبة الانتخابات، وهذه البدعة لا تتعلق، بتطوير قوانين هذه العملية من أجل تحقيق انتخابات عادلة ونزيهة، بل لغرض خدمة مصالح الفاعلين السياسيين المهيمنين على القرار في مجلس النواب لحظة إقراره!
في نهاية عام 2005 جرت أول انتخابات لمجلس النواب العراقي بعد إقرار الدستور في العام نفسه، وقد جرت هذه الانتخابات بموجب قانون انتهك أحكام الدستور نفسه، فقد قررت المادة 15/ ثانيا من ذلك القانون أن عدد مقاعد كل محافظة يتحدد «مع عدد الناخبين المسجلين في المحافظة»، وهذه المادة تتناقض مع المادة 49/ أولا من الدستور التي قررت أن يكون هناك مقعد لكل 100 ألف نسمة! وكان يفترض بالمحكمة الاتحادية التي نظرت في دعوى «جبهة التوافق العراقية»، أن تحكم بعدم دستورية هذه المادة أولا، وتحكم بعدم دستورية انتخابات عام 2005 أيضا، كونها جرت بقانون يتعارض مع أحكام الدستور الذي قرر أنه «يعد باطلا كل نص يرد في دساتير الأقاليم أو أي نص قانوني آخر يتعارض معه». ولكن المحكمة الاتحادية كالعادة استندت إلى علاقات القوة ومصالح الفاعلين السياسيين المتنفذين في حكمها، وليس إلى النص الدستوري بطبيعة الحال، فقررت عدم دستورية المادة 15/ ثانيا من قانون الانتخابات، ولكنها قررت أيضا أن عدم الدستورية «لا يمس الإجراءات التي جرت بموجبها انتخابات المجلس النيابي الحالي في ظل قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية» وهذا انتهاك واضح للنص الدستوري الذي قال ببطلان كل نص قانوني يتعارض مع النص الدستوري!
في نهاية عام 2009، عُدِّل قانون انتخابات 2005 أيضا، وفقا لعلاقات القوة ومصالح الفاعلين السياسيين في مجلس النواب، وهو ما جعل أحد أعضاء هيئة رئاسة الجمهورية، حينها، يرفض التوقيع على القانون، وكان اعتراضه منصبًّا على أن المقاعد المخصصة لانتخابات الخارج قليلة ويجب زيادتها، لأنه كان يعرف أن أغلب هؤلاء المهاجرين ينتمون إلى طائفته، وبالتالي قد يفقد أصواتا قيمة، وهو ما دفع مجلس النواب إلى تغيير هذه المادة تماما بما ينسجم مع مصالح الفاعلين السياسيين الآخرين من الذين أدركوا أن أصوات هؤلاء المهاجرين لا تصب في مصلحتهم الطائفية، فقرروا إلغاء مقاعد انتخابات الخارج، أصلا، بدلا من زيادتها، وقرروا أن يصوت ناخبو الخارج لقوائم محافظاتهم!
كان غرض قوانين الانتخابات المتتالية الجوهري هو ضمان التزوير، وضمان عدم تكافؤ الفرص، وضمان استخدام أدوات السلطة لرشوة الجمهور
جرت انتخابات عام 2014، بموجب قانون جديد كرس فكرة أن القانون في العراق مجرد اتفاق سياسي يعكس علاقات القوة في مجلس النواب لحظة إقراره، ويعكس طبيعة التفاهمات الضمنية والصفقات، بين بعض أطراف المجلس! هكذا زيدت مقاعد مجلس النواب من 325 إلى 328 ، دون مسوغ دستوري بل استجابة لعلاقات القوة واشتراطاتها! في هذا القانون أيضا اعتُمدت، لأول مرة، صيغة سان ليغو المعدلة لتوزيع المقاعد على القوائم الفائزة، لكن برفع قيمة الرقم الأول الذي تُقسّم الأصوات على أساسه من 1.4 الى 1.6 والذي يعني عمليا رفع قيمة المقعد الأول الذي يمكن ان يحصل عليه أي كيان سياسي، وذلك من أجل منع الكيانات الصغيرة من الحصول على مقاعد في مجلس النواب!
لكن المفارقة في هذا القانون أنه كان «مقترح قانون» قُدّم في مجلس النواب، ولم يكن «مشروع» قانون قدمه رئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء، وهو ما يتعارض مع قراري المحكمة الاتحادية رقم 44 و 45 الصادرين 2010 فإن مقترح القانون لا يكتسب دستوريته إلا إذا مر عبر قناة مجلس الوزراء، وهما القراران اللذان استند إليهما في نقض قانوني تحديد ولاية الرئاسات الثلاثة، وقانون تقاعد أعضاء مجلس النواب حينها، لكنها سياسة التواطؤ الجماعي التي تحكم كل شيء في العراق وهي التي سمحت بتمرير هذا القانون وعدم نقضه مع أنه لم يلتزم بقرارات المحكمة الاتحادية الباتة والملزمة للسلطات، كافة كما يقول الدستور!
عُدِّل القانون الذي جرت بموجبه الانتخابات السابقة مرة أخرى سنة 2018، وفيه أضيفَ مقعد كوتا إلى محافظة واسط بصورة اعتباطية، وتوزيع المقاعد وفقا لصيغة «سان ليغو»، كما تسمى عراقيا، لكن مع رفع الرقم الأول الذي سَتُقسّم الأصوات بموجبه إلى 1.7 هذه المرة، لمزيد من تقليل فرص الكتل الصغيرة، واشتراط أيضا، أن تجري عملية الفرز والعد باستخدام جهاز تسريع النتائج الإلكتروني.
لم يلتفت أحد إلى التحذيرات الكثيرة بشأن إشكاليات عمل أجهزة تسريع النتائج التي تستخدم للمرة الأولى في العراق، وظلت الأسئلة المتعلقة بشركة «ميرو سيمنز» الكورية دون إجابة حتى اللحظة، مع أن لجنة حكومية أثبتت في تقرير فني «سهولة اختراق النظام والتلاعب بالنتائج وتأكيدها بنماذج على حصول خرق بالنظام»!
لكن ومع الإثباتات القوية حول حدوث عمليات تلاعب وتزوير واسعة، كانت مصلحة الفاعلين السياسيين الأقوياء تقضي بالاعتراف بتلك الانتخابات والسكوت عن عمليات التزوير تلك، وهو ما حصل بتواطؤ سلطات الدولة كافة للقبول بالأمر الواقع!
عام 2020 شُرع قانون انتخابات جديد دون نظام التمثيل النسبي الذي عُمل به في الانتخابات السابقة جميعها، واللجوء إلى نظام الفائز الأول «الفردي» ورسمت الدوائر الانتخابية بطريقة «انتقائية» دون معيار منطقي، أتاحت للقوى السياسية أن «تختار» ناخبيها بدل أن يقوم الناخبون باختيار مرشحيهم!
وقبل أيام مرر مجلس النواب العراقي قانونا جديدا للانتخابات، ودمج هذه المرة، بطريقة اعتباطية أيضا، انتخابات مجالس المحافظات بانتخابات مجلس النواب! والأهم في هذا القانون هو العودة إلى اعتماد المحافظة كدائرة واحدة واعتماد نظام التمثيل النسبي مرة أخرى، بدلا عن الدوائر المتعددة في المحافظات واعتماد نظام الفائز الأول «الفردي»! وهذه العودة كانت نتيجة مباشرة للنتائج التي أفضت إليها انتخابات عام 2021؛ فقد استطاع التيار الصدري، الذي لم يعد ممثلا في مجلس النواب بعد استقالته الجماعية، وبسبب من طبيعة جمهوره الملتزم حزبيا، واحترافية ماكينته الانتخابية، أن يحظى بـ 72 مقعدا في تلك الانتخابات، لذلك كان لزاما منعه من الحصول على هكذا رقم في أي انتخابات قادمة، بالعودة إلى نظام التمثيل النسبي الذي سيمنع التيار الصدري من الحصول على هكذا أرقام مرة أخرى!
هكذا يكرس قانون الانتخابات الأخير أزمة الدولة العراقية، عبر تحويل القوانين التي يفترض أنها قواعد عامة مجردة هدفها مصلحة الجمهور، إلى مجرد اتفاقات سياسية تضمن مصالح الفاعلين السياسيين الأقوى، لهذا كان غرض قوانين الانتخابات المتتالية الجوهري هو ضمان التزوير، وضمان عدم تكافؤ الفرص، وضمان استخدام أدوات السلطة لرشوة الجمهور، وهي الضمانات التي حرص القانون الجديد أن يؤمنها جيّدا!
القدس العربي