تتكاثر الأزمات الاقتصادية التي تعصف بمصر يوما بعد آخر، من أزمة مالية خانقة، عجز بالموازنة، ركود اقتصادي، تراجع الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة، إلى انهيار قيمة العملة المحلية (الجنيه) وتفاقم التضخم.
وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه المصريون انتهاء مشوار الإصلاح الاقتصادي وبرنامج صندوق النقد الدولي وجني ثمار الصبر والمثابرة، وجدوا أنفسهم أمام أزمة اقتصادية جديدة ذات ملامح أكثر قتامة، دون أية حلول تلوح في الأفق.
وفيما يلي، نحاول أن تلقي الضوء على أبرز المشكلات الاقتصادية التي تعانيها مصر، وتمثل عقبة في طريق التنمية.
متى تتوقف موجات التضخم؟
بعد برنامج مصر مع صندوق النقد عام 2016، تراجعت قيمة الجنيه المصري، وتم رفع سعر الفائدة بالجهاز المصرفي، مما أدى إلى موجات تضخمية، بلغت ذروتها في يوليو/تموز 2017 عند قرابة 35%، ثم بدأت في الهبوط.
ولكن الأمر لم يدم، فكان المجتمع المصري على موعد مع تحديات أخرى خلال عام 2022 وبدايات 2023، شملت تخفيض قيمة الجنيه مرة أخرى، وكذلك رفع أسعار الفائدة بالجهاز المصري، مما ساعد على وصول معدل التضخم إلى 40% حسب بيانات البنك المركزي المصري، وقد ظهرت نتائج هذه الموجات التضخمية بشكل كبير على مظاهر حياة الأسرة المصرية، فيما يتعلق باستهلاكها من الغذاء وباقي احتياجاتها الضرورية.
وإن كانت السياسات النقدية للبنك المركزي تعلن أنها تستهدف مكافحة التضخم، إلا أن التضخم لن يتراجع في مصر إلا من خلال القضاء على أسبابه، عبر زيادة إنتاج السلع والخدمات، الاعتماد على مستلزمات الإنتاج المحلية، إعادة النظر في المشروعات ذات المكون الخارجي الذي يتطلب موارد من النقد الأجنبي، وكذلك القضاء على الفساد.
ما أبعاد أزمة الديون العامة؟
تعد أزمة المديونية العامة أحد أبرز ملامح الأزمة الاقتصادية، فتم التوسع في الديون الخارجية دون الأخذ في الاعتبار طبيعة موارد مصر المحدودة من النقد الأجنبي، وبخاصة أنها ذات طبيعة ريعية، وتؤثر فيها التقلبات الخارجية بشكل كبير.
ونهاية 2022 بلغ الدين الخارجي 162.9 مليار دولار، بينما البيانات الخاصة بالدين المحلي متوقفة عند يونيو/حزيران 2020، حيث بلغت 4.7 تريليونات جنيه، ومن السهل حسابها عند يونيو/حزيران 2022، بإضافة قيمة العجز الكلي بالموازنة، والذي قارب نحو تريليون جنيه، عام (2020-2021 و2021-2022) وبذلك يمكن تقدير الدين العام المحلي عند 5.7 تريليونات جنيه تقريبا (الدولار يساوي 30.95 جنيها).
ويترتب على هذا الدين العام عدة أمور، منها زيادة الأعباء على الموازنة العامة للدولة، بدفع فاتورة هذه الديون والتي قدرت بنحو 690 مليار جنيه في موازنة 2022-2023، ومن المتوقع أن يتم تجاوز هذا الرقم نظرا لتوسع الحكومة في المديونية العامة خلال السنة.
ويؤدي تزايد فاتورة فوائد الديون إلى تقييد يد صانع السياسة الاقتصادية، سواء فيما يتعلق بزيادة الإنفاق على الخدمات العامة من تعليم وصحة، أو الإنفاق على مشروعات البنية الأساسية، كما يدفع الحكومة لزيادة الضرائب من أجل سداد أعباء الدين، سواء الأقساط أو الفوائد.
ومن أكبر مشكلات المديونية العامة في مصر أن الحكومة لا تملك برنامجا للحد من هذه الديون أو سدادها وفق جداول زمنية محددة، كما أنها تلجأ كثيرا للديون قصيرة الأجل، بينما مواردها لا تسمح للتعامل مع هذه الديون، مما يجعلها تضطر للاستدانة كل عام لتمارس ما يعرف بتدوير الديون، ومن هنا نجد أن العجز بالموازنة العامة للدولة بحدود 30 مليار دولار.
ما دلالات عجز الميزان التجاري؟
يُبنى على الميزان التجاري السلعي لأي دولة عدة أمور، منها معرفة الدلالات الأولية لأداء اقتصاد الدولة، طبيعة ما ينتجه من سلع.
وتبين أرقام ميزان المدفوعات لمصر، عن عام 2021-2022، أن العجز التجاري بلغ 43.3 مليار دولار، بسبب بلوغ الواردات السلعية 87.3 مليار دولار، بينما الصادرات السلعية بلغت 43.9 مليار دولار.
والأمر المهم في حالة مصر أن الصادرات البترولية بلغت 17.9 مليار دولار، في حين تقدر قيمة الواردات البترولية بـ 13.5 مليار دولار، وهو ما يظهر أن الميزان التجاري البترولي يحقق فقط 4.4 مليارات دولار، على الرغم من تباهي الحكومة بارتفاع صادراتها البترولية خلال الفترة الماضية.
ما أسباب تهاوي الجنيه المصري؟
لم يكن سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية على مدار أكثر من 5 سنوات مضت معبرا عن قيمته الحقيقية، فقد كان مدعوما بتدفقات تعاملات الأجانب في الدين العام، والتي بلغت قرابة 30 مليار دولار في بعض السنوات.
ولما خرجت تلك الأموال عام 2022، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، تهاوى الجنيه كما رأينا على مدار عام 2022. وللأسف عادت الحكومة المصرية مرة أخرى للأموال الساخنة منذ شهور قليلة.
ومن جانب آخر، استمرت الحكومة في سياسة حماية سعر صرف الجنيه، بعوامل أخرى بجانب تعاملات الأجانب في الدين العام، مثل ودائع دول الخليج لدعم احتياطي النقد الأجنبي، وكان لتراجع إيرادات مصر من السياحة بسبب أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا دور في تراجع قيمة الجنيه، وكذلك استمرار الحكومة في استيراد سلع أجنبية لمشروعات لا تدر عوائد في الأجلين القصير والمتوسط.
ولن يكون للجنيه المصري سعر صرف حقيقي إلا إذا تخلت الحكومة عن سياسة حماية سعر الصرف، واتبعت سياسة اقتصادية تعكس زيادة تدفقات النقد الأجنبي للداخل بشكل يوازن وارداتها من الخارج، ولن يتحقق ذلك إلا بزيادة في الصادرات السلعية والخدمية، وترشيد الواردات السلعية والخدمية.
لماذا يتراجع أداء القطاع الخاص باستمرار؟
يستمر القطاع الخاص غير النفطي بالتراجع نتيجة لعدة أسباب، منها ما ذكرناه من ارتفاع معدلات التضخم، تراجع موارد الدولة من النقد الأجنبي، مما أثر على تدبير النقد الأجنبي لتوفير مستلزمات الإنتاج والعِدد والآلات للقطاع الخاص غير النفطي.
والأمر الآخر هو استمرار سيطرة القوات المسلحة على قطاع كبير من النشاط الاقتصادي المدني، مما حد من فرص توسع القطاع الخاص، واستفادته من المشروعات الحكومية، ومشروعات شركات قطاع الأعمال العام، وكذلك ارتفاع تكلفة التمويل بالجهاز المصري.
ومن بين تلك الأسباب انخفاض قيمة الجنيه المصري، والذي أدى ارتفاع فاتورة الواردات اللازمة لإنتاج السلع والخدمات، وكذلك ارتفاع تكاليف الإنتاج، من خلال ارتفاع أجور العمالة.
ماذا جنت مصر من سياسة الخصخصة؟
خصخصة المشروعات العامة وشركات قطاع الأعمال العام في مصر باب مفتوح على مصراعيه، سواء كانت الخصخصة بشكل جزئي أو بيع لمستثمر إستراتيجي، وبخاصة أن المشروعات التي يتم خصخصتها هي شركات رابحة، سواء كانت مشروعات إنتاجية أو بنوكا.
وللأسف فإن عوائد الخصخصة إما يتم التصرف فيها لسداد ديون، أو دفع جزء من عجز الموازنة، وهو ما يعني التفريط من وجوه متعددة، منها حرمان الموازنة العامة من عوائد وأرباح هذه الشركات والمشروعات، وكذلك استنزاف موارد مصر المحدودة من النقد الأجنبي، حيث يقوم المشترون نهاية كل عام بتحويل أرباحهم للخارج.
وثمة نتيجة ثابتة عن دراسات، تناولت تجارب الخصخصة، أنها لم تؤد إلى زيادة كبيرة في توفير فرص العمل، كما أنها لم توطن تكنولوجيا جديدة، ومعظمها لم يأت بمشروعات جديدة، ولكنها تستحوذ على مشروعات قائمة.
لماذا لا تجدي الاستثمارات الأجنبية بمصر؟
سمحت مصر منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين باستقدام الاستثمارات الأجنبية، وكثيرا ما عولت الحكومات المتعاقبة على تلك الاستثمارات، إلا أن أسوأ ما تم هو التوسع في استقدام الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة من خلال البورصة، أو من خلال تعاملات الأجانب في الدين العام.
فمصر بحاجة إلى تحسين أداء ناتجها المحلي الإجمالي، وإلى توفير فرص عمل للداخلين الجدد لسوق العمل، ولكن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر تركز على قطاع النفط الذي يعود جانب كبير من نتائجه الإيجابية على الشركات الأجنبية. ويستحوذ قطاع النفط على نسبة 70% تقريبا من الاستثمارات المباشرة في مصر، وجزء صغير يوجه للصناعة، بحدود 10% في أحسن الأحوال، بينما قطاع الزراعة لا ينال سوى أقل من 1%.
ومن هنا فالاستثمارات الأجنبية المباشرة لم يحسن توظيفها، ولم توضع لها شروط تعود بالنفع على الاقتصاد المصري، كما أن الاستثمارات غير المباشرة كانت في إطار المضاربات بالبورصة، أو الأموال الساخنة التي تتعامل في الدين العام من قبل الأجانب.
ما انعكاسات مفاوضات مصر مع صندوق النقد على المواطن؟
عادة ما تصطدم أجندة صندوق النقد الدولي برغبة شعوب الدول المتلقية للقروض ومن بينها مصر، فليس من صالح المواطن رفع الأسعار في ظل ثبات الدخول، وليس من مصلحة المواطن تقليص عدد العاملين بالحكومة في ظل عجز القطاع الخاص عن توفير فرص عمل بشكل كاف يستوعب العاطلين عن العمل أو الداخلين الجدد.
كما أن الحزمة المالية التي فرضها الصندوق على مصر، برفع الضرائب والرسوم، كان على حساب مستوى معيشة المواطن، كما أن الديون التي حصلت عليها الحكومة المصرية من صندوق النقد، أو بواسطته، لم يشعر بها المواطن في مختلف جوانب معيشته.
فصندوق النقد يمثل صورة سلبية في ذهن المواطن المصري، في ظل اعتماد الحكومة عليه بشكل كبير، وعدم نجاحها في تبني مشروع تنمية حقيقي يعتمد على الذات.
لماذا تفقد الموازنة تأثيرها على واقع الاقتصاد المصري؟
حتى يكون للموازنة العامة للدولة تأثير إيجابي على حياة المواطن، فلابد أن يشارك فيها، لكي يضمن الاستغلال الأمثل للموارد والإنفاق العام، كما ينبغي أن يقوم البرلمان بدور رقابي بارز على السلطة التنفيذية، ليضمن تطبيقا حقيقيا لمخصصات الموازنة.
ولكن للأسف لا تتم مشاركة المواطن في وضع الخطة أو الموازنة، ولا أدل على ذلك من أن المجالس الشعبية المحلية غير موجودة منذ حلها بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، كما أن البرلمان لا يمارس دوره الرقابي بشكل حقيقي، بسبب طبيعة الانتخابات التي أتت به، فهو برلمان يتضامن مع الحكومة أكثر من أنه يراقبها.
ومن الجانب المادي بالموازنة، فهي للأسف موازنة محكومة بما يسمى النفقات الحتمية، فالأجور والدعم والفوائد والنفقات الجارية بنود لا يمكن إلا الوفاء بها، كما أن الاستثمارات الموجودة تخص الحكومة فقط، ومعظمها تأتي في قطاع الإنشاءات والمقاولات.
ولايزال باب استنزاف الموارد العامة مستمرا من خلال بوابة الصناديق الخاصة، سواء في الهيئات الاقتصادية أو القطاع الإداري والمحليات بالدولة، وكذلك تلك الصناديق الخاصة بمؤسسات الجيش والشرطة.
ماذا عن معدلات الفقر في مصر؟
تظهر البيانات الرسمية أن معدل الفقر بلغ نسبة 29.7% من السكان خلال العام المالي 2019-2020، ولم يفصح الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن البيانات الحديثة، حيث يصدر تلك البيانات كل عامين، والتي كان من المفترض أن ينشرها منتصف عام 2022.
وبلا شك، فإن ما أتى من ممارسات اقتصادية بعد عام 2020 يعكس المزيد من النتائج السلبية التي تؤدي إلى زيادة معدلات الفقر، والتي كان آخرها أن معدل التضخم بلغ 40% بنهاية فبراير/شباط 2023، وليس هذا فحسب، فوزارة التضامن الاجتماعي أعلنت أن عدد الأسر الفقيرة المستحقة لمعاشات تكافل وكرامة تصل إلى 8.5 ملايين أسرة، بينما عدد من يحصلون على تلك المعاشات بحدود 3.5 ملايين.
ويتفاقم الوضع سواء بالنسبة للفقراء في مصر لأن معظمهم من أصحاب الدخول الثابتة، وثمة فجوة كبيرة بين الأجور والأسعار في المجتمع، فحتى الحد الأدنى للأجور الذي أعلنت عنه الحكومة عند 3500 جنيه، في موازنة 2023-2024، يقل بكثير عن مستوى توفير المتطلبات الأساسية للأسرة المصرية.
المصدر : الجزيرة