بعد 12 عاما من عزلة دبلوماسية فرضتها على دمشق، تفتح دول عربية عدة على رأسها السعودية ذراعيها مجددا للرئيس بشار الأسد، ما يمهد لعودة سوريا إلى الحضن العربي ويبدو إقرارا بانتصاره في حرب لم تنته. واستقبلت السعودية الأربعاء وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في أول زيارة رسمية إلى المملكة منذ بدء النزاع.
وتأتي الزيارة قبل اجتماع يعقد في السعودية الجمعة ويجمع دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر والعراق، على جدول أعماله عودة سوريا إلى الجامعة العربية بعدما علقت عضويتها فيها منذ 2011، وقبل شهر تقريبا على انعقاد قمة عربية في السعودية، جراء قمعه عسكريا للاحتجاجات المناهضة له والتي طالبت بتداول سلمي للسلطة، مما زج بسوريا في حرب أهلية مدمرة. ويتزامن هذا مع تغيّر الخارطة السياسية في المنطقة بعد الاتفاق السعودي – الإيراني الذي أعلن عنه الشهر الماضي.
ورغم الحرب، تقيم 10 دول عربية علاقات رسمية معلنة مع نظام بشار الأسد في سوريا، فيما تراجع 8 دول أخرى الوضع في ضوء الالتزام بقرارات جامعة الدول العربية، بينما يرفض فريق ثالث مكون من ثلاث دول استئناف العلاقات مع دمشق في ظل عدم تحسن الوضع السوري منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2011.
ويعتزم الأردن إطلاق مبادرة لحل الأزمة السورية، تحدث عنها وزير خارجيته العام الماضي، وتقوم على “دور عربي مباشر ينخرط مع الحكومة السورية في حوار سياسي يستهدف حل الأزمة ومعالجة تداعياتها الإنسانية والأمنية والسياسية”.
ويقول الباحث في الشأن السوري في مركز “سنتشوري إنترناشونال” آرون لوند لوكالة فرانس برس “الأسد ببساطة رفض التسوية وانتظر أن يستسلم أعداؤه، وقد نجح في ذلك”، مضيفا “يعودون اليوم الواحد تلو الآخر لمصافحته والتظاهر بأن العقد الماضي لم يحصل”. واعتبر أن ذلك “يبعث إلى المعارضة رسالة مفادها أن الأسد سينتصر في النهاية وأن حلفاءها خانوها”.
الاستثمار والحل السياسي
منذ بداية النزاع في سوريا، قطعت دول عربية على رأسها السعودية علاقتها مع دمشق وسحبت سفراءها منها، وقدم عدد منها دعما للمعارضة المسلحة والسياسية. وخلال قمة عربية في العام 2013، شارك وفد من الائتلاف السوري المعارض الاجتماعات في الدوحة بوصفه “ممثلا” للشعب السوري.
وخلال 12 عاما، قتل أكثر من نصف مليون شخص وتشرّد أكثر من نصف سكان سوريا داخل البلاد وخارجها، وتحولت البلاد إلى ساحة تصفية حسابات بين قوى إقليمية ودولية. وترك كل ذلك أثره على الاقتصاد المتعب. لكن الأسد الذي يتطلع اليوم إلى أموال إعادة الإعمار، بقي في قصره الرئاسي. وقد استعادت قواته غالبية المناطق التي كانت خسرتها في بداية النزاع بدعم من حليفيه الأساسيين: روسيا وإيران.
برز أول مؤشرات الانفتاح العربي على دمشق، في 2018 مع استئناف العلاقات بين سوريا والإمارات العربية المتحدة، وشكّل الزلزال المدمّر الذي ضرب سوريا وتركيا في فبراير نقطة تحوّل لافتة. فقد تلقى الأسد سيل اتصالات من قادة دول عربيّة، حتى إن السعودية أرسلت طائرات مساعدات كانت الأولى من نوعها منذ قطع علاقاتها مع دمشق.
ويعد استقطاب أموال مرحلة إعادة الإعمار أولوية للنظام السوري اليوم بعدما أتت الحرب على البنى التحتية والمصانع والإنتاج. وفيما يدرك الأسد أن الحصول على أموال المجتمع الدولي صعب خارج تسوية سياسية، يعلّق آمالا ربما على دول الخليج.
ولا شكّ أن الانفتاح الخليجي من شأنه أن يفعّل الحركة التجارية والاقتصادية في سوريا إلى حدّ ما، لكنّ عقبات عدة تعوق أي إعمار حقيقي، وبينها، وفق لوند، العقوبات الأميركية والغربية المفروضة على سوريا و”التي ستردع الاستثمارات السعودية والإماراتية”.
كما “يعد أي استثمار جدّي في سوريا اليوم مغامرة، فالاقتصاد مدمر، ويطغى عليه الفساد، ويسيطر عليه نظام خطير وعنيف”، على حدّ تعبيره. وتفرض الدول العربية أيضا عقوبات على سوريا تشمل تجميد المبادلات التجارية مع الحكومة السورية وتجميد حسابات الحكومة السورية المصرفية في الدول العربية. ومن المرجح رفع تلك العقوبات في حال عادت دمشق إلى الحضن العربي، لكن تأثير ذلك يبقى محدودا إذا بقيت البلاد تحت تأثير العقوبات الغربية.
ويرى الباحث في الشأن السوري سام هيلر أن الانفتاح على سوريا يعني أيضا “المزيد من التعاون الأمني وخصوصا في مجال مكافحة تهريب المخدرات”، أحد أكبر مصادر القلق بالنسبة إلى السعودية، خصوصا لناحية حبوب الكبتاغون المصنعة بشكل رئيسي في سوريا والتي تجد سوقا كبيرا لها في السعودية، وفق تقارير مختلفة.
“مظالم كثيرة”
وقد تطرّق بيان مشترك صدر إثر لقاء وزيري الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان والسوري فيصل المقداد الأربعاء إلى مسألة تهريب المخدرات. ومن شأن هذا التقارب أيضا، وفق هيلر، أن “يقلّل من أهمية المفاوضات السورية – السورية في جنيف (…)”، مشيرا إلى أن الحكومة السورية “ترفض أصلا الاعتراف بممثلي المعارضة، مصرة على التفاوض على مستوى الدول” الداعمة لها. ويضيف “لذلك فإن الاتفاق مع السعودية ودول أخرى هو ما أرادته دمشق بالتحديد”.
وفشلت جولات مفاوضات عدة بين النظام والمعارضة قادتها الأمم المتحدة في جنيف، في محاولة لإرساء تسوية سياسية. ويقول لوند “لا أعتقد أن هناك حلا سياسيا لسوريا على الطاولة، وأساسا لم يكن هناك حل. كما أنه ليس هناك حل عسكري”، جراء انتشار قوى من دول عدة فيها.
قد لا تغيّر عودة سوريا إلى الحضن العربي الخارطة السياسية والميدانية على المدى القريب، إذ هناك أطراف أخرى يجب أخذها بالحسبان، من روسيا وإيران إلى الولايات المتحدة التي تنشر قوات في سوريا دعما للمقاتلين الأكراد، إلى تركيا التي تسيطر على مناطق حدودية.
وترافقت احتمالات التقارب مع النظام السوري مع معارضة أميركية للتطبيع مع النظام السوري، بسبب ما وصفه المتحدث باسم الخارجية الأميركية السابق نيد برايس بـ”وحشية النظام” و”عدم وجود بوادر حل سياسي”.
ويقول لوند “سوريا كدولة تغيّرت بطرق لا عودة فيها لمجرد أن حوالي ربع سكان ‘ما قبل الحرب’ يراقبون عودة الأسد إلى الحضن العربي من المنفى”. ويتحدث ناشطون صدحت أصواتهم ضد النظام في سوريا عن “خيبة أمل متوقعة” من الدول العربية.
ويقول المعارض السوري والرئيس التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة محمّد العبدالله “عودة الأسد إلى الجامعة العربية، وإن كانت مؤسفة، تظهر وكأنه يجري ضبط المنطقة العربية لإعادتها إلى ما كانت عليه قبل 2011”. ويضيف “لكن ذلك لن ينجح لأنه ببساطة مبني على مظالم كثيرة: اللاجئين والنازحين والمفقودين والمعتقلين”.
العرب