بعد مفاوضات شاقة بين العسكر والمدنيين بين الموقعين على «الاتفاق الإطاري» أشرفت عليها أطراف دولية وأممية، كان يفترض أن تنتهي بتسوية سياسية تعيد الأحزاب المدنية مجددا في السلطة، وتنهي انقلاب الجنرالين عليها، الذي جرى في تشرين أول/أكتوبر 2021، احتدم الخلاف فجأة بين عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، وقائد الجيش، ونائبه الأول محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد «الدعم السريع».
يفتح الوضع الجديد الباب على إمكانية نشوب صراع عسكري بين الطرفين قد يؤدي إلى دمار واسع وسفك دماء، وسواء أدى إلى رجوح سيطرة أحد الطرفين المتصارعين، أو استمر فترة طويلة من دون حسم، فقد تكون من نتائج ذلك دخول السودان في دوامة عسكرية وأمنية، وابتعاد حلم السودانيين بالعودة إلى حكم مدني ديمقراطي يُرجع العسكر إلى ثكناتهم، ويوقف تحكمهم بالعملية السياسية، ويضع امتيازاتهم الاقتصادية تحت سلطة الحكومة، ويوقف استقواء الطرفين بالقوى الخارجية.
تركزت مطالب المدنيين خلال المفاوضات على قبول الجيش و«الدعم السريع» بالرقابة الحكومية عليهما، وإخضاع احتكاراتهما في قطاعات الزراعة والتجارة والقطاعات الأخرى للقانون، واستكمال التحقيقات بشأن ارتكاب جرائم حرب في دارفور (الدعم السريع) وكذلك تكملة العمل الذي انقطع منذ انقلاب 2021 بخصوص العدالة الانتقالية ومحاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين.
بدا الأمر، وكأن ضغط القوى المدنية، مدعومة من المنظومة الدولية، اقترب من حصد ثماره، لكن أوساط البرهان قامت عمليا بإجهاض الاتفاق عبر محاولة استغلال تلك اللحظة لتسريع مطلب دمج قوات «الدعم السريع» في القوات المسلحة، ووضعها تحت إمرته.
ساهمت عدة أمور في تصاعد إحساس (حميدتي) بالخطر، ومنها إعادة إعلان البرهان عن «قوة تدخل سريع» من داخل الجيش، وكشفه عن امتلاك طراز حديث من المسيّرات التركية، ثم قيامه بزيادة عدد المدرعات حول مبنى الإذاعة والتلفزيون، وأحياء عسكرية، وانضاف عنصر خارجي، بعد أنباء نشرتها قوى سودانية، قريبة من حميدتي، زعمت وجود وحدات عسكرية واستخباراتية مصرية قرب مطار مدينة مروي شمال البلاد.
في المقابل فقد قام «الدعم السريع» بمضاعفة قواته حول مبنى الإذاعة والتلفزيون، ودعمها بعشرين عربة مزودة بمضادات للدبابات، واستجلب قوات ضخمة من دارفور وكردفان توزعت على 4 معسكرات حول ولاية الخرطوم، كما نشر أعدادا كبيرة من الجنود حول منطقة المطار، وهو ما جعل مروي الموقع الأكثر احتمالا لنشوب مواجهة عسكرية.
سارع الجيش إلى اتهام «الدعم السريع» بالتحشيد والانتشار والتحرك داخل العاصمة وعدد من المدن «من دون موافقة قيادة الجيش» فيما طالبت قوى مدنية، مثل «تجمع المهنيين» بـ«تغليب صوت العقل» ودعا حزب «الأمة القومي» إلى اجتماع عاجل لقادة الجيش والدعم السريع والقوى السياسية المدنية والحركات المسلحة، محذرا من أن الوضع الأمني «قريب من الانزلاق».
تبدو مراهنة بعض القوى السياسية السودانية، حاليا، على أحد الطرفين، نوعا من استقالة العقل، وهي استقالة تلجأ لتعزيز المنطق الأيديولوجي الخائب، الذي يقتنع بمناورات (حميدتي) أو البرهان، وادعاءاتهما حول إعادة الحكم للمدنيين، والأولى هنا عدم توقع نتائج مفيدة من النزاع العسكري لأنه سيكون، بالتأكيد، ضد مصلحة السودان والسودانيين، كما سيكون انقلابا على «الاتفاق الإطاري» وعكسا لخطة التسوية السياسية لعودة القوى المدنية إلى الحكم.
القدس العربي