الاتفاق السعودي الإيراني: تصفير للنزاعات أم تبريدها لحين؟

الاتفاق السعودي الإيراني: تصفير للنزاعات أم تبريدها لحين؟

تم عقد الاتفاق أو التوقيع على الاتفاق السعودي الإيراني في بكين، برعاية الصين الدولة العظمى التي لها مصالحها الاقتصادية الاستراتيجية في المنطقة. لم تمض إلا أيام ورأينا كيف أن الأوضاع في اليمن اتجهت وبسرعة غير متوقعة إلى الحلحلة، تمهيدا إلى الوقف الدائم للحرب فيها، وليس التفكيك الذي يقود إلى وضع الحلول النهائية، فهذا الأمر صعب ومعقد في ظل ظروف اليمن المعقدة، التي تتشابك فيها المصالح الإقليمية والعربية.
أما سوريا فقد تم الانفتاح على نظامها من قبل السعودية كما غيرها من دول الخليج العربي ودول عربية أخرى؛ والسعي إلى إعادته إلى الجامعة العربية. كما أن الأمر ذاته ينطبق على الأوضاع في العراق وعودته إلى الحضن العربي. جميع هذه المتغيرات جرت أو تمت بعد الاتفاق بين السعودية وإيران، وأيضا في مرحلة المفاوضات التي سبقت التوقيع، ما يعني أن صراع هذه الدول ـ وأعني هنا الصراع داخلها ـ ما هو إلا صراع بين هاتين الدولتين وغيرهما.
وهنا نتساءل هل أن الأمر، أي الحلحلة، تنحصر بإرادة السعودية وإيران وحتى الصين الراعي لهذا الاتفاق؟ وهل أن أمر أو موضوع هذه الحلحلة سوف يجري أو يتم بمعزل عن القوى الدولية الأخرى، وتحديدا أمريكا والصين وروسيا، وربما إسرائيل من على المنصة الأمريكية؟ فإسرائيل التي تحتل ما تبقى من أرض فلسطين، تمتلك أذرعا أخطبوطية، أكثر بكثير من أي دولة كبرى إقليمية، بل إنها أخطر بكثير من تلك الدول الإقليمية الكبرى، ولها ايضا علاقات اقتصادية وتجارية وتقنية واستثمارات مع الصين، ومع روسيا، ومن الناحية الواقعية، هي علاقات متينة وراسخة خلال عدة عقود مضت وإلى الآن، وفي تطور ونمو مستمرين، رغم بعض المطبات أحيانا. وهل هناك مقايضات وتوافقات تحفظ للجميع المصالح والنفوذ في أي حلحلة لأي دولة من الدول العربية التي يشتعل فيها صراع الإخوة الأعداء؟ وهل أن الدول الإقليمية الكبرى لها القدرة على فرض الحلول والتسويات، بمعزل عن إرادة القوى الدولية، واعني هنا أمريكا للجهة الاكثر تحديدا وتأثيرا وفاعلية، بالإضافة إلى القوى الكبرى الأخرى أي الصين وروسيا؟ يذهب الكثير من التحليلات السياسية إلى أن أمريكا الآن في مرحلة الانسحاب من المنطقة، وبانسحابها ستترك فراغا، يتم ملؤه من الصين وروسيا؛ هذا التحليل في غاية الخطأ، فأمريكا لن تنسحب من المنطقة، بل ستعيد تموضعها، أو ستعود إلى ما كانت عليه قبل انفرادها في قيادة العالم، أي أنها ستحافظ على وجودها في المنطقة بطريقة مختلفة وملائمة لها، في ظروف صراعها مع الصين بالدرجة الأولى، ومع روسيا بدرجة أقل كثيرا، بمعنى أكثر وضوحا؛ أنها ستحافظ على قواعدها في الخليج العربي، وعلى وجه التحديد قاعدتها في البحرين أي الأسطول الخامس الأمريكي، بالإضافة إلى قواعدها الأخرى، مع تعزيز أذرعها الخفية والظاهرة في آن واحد في دول المنطقة العربية، سواء من كان منهم في السلطة، أو في أماكن مؤثرة، كالإعلام على سبيل المثال لا الحصر. أما الصين وروسيا فليس في قدرتهما وإمكانياتهما ومواردهما، لعب الدور ذاته الذي لعبته وما تزال تلعبه الولايات المتحدة في المنطقة العربية وفي جوارها الإسلامي.

لا شيء مستبعد في عالم المصالح الدولية والإقليمية، العربية منها أو غيرها من الدول الإقليمية الكبرى، التي يتم تحت دروبها الصخرية؛ دفن إرادة الناس

إذن الولايات المتحدة ليست في مرحلة الانسحاب من المنطقة، ولا في نية الصين وروسيا أن تلعبا الدور الأمريكي نفسه، وما أقصده هو الدور العسكري في توفير الحماية والمحافظة على المصالح، إنما سينحصر دوريهما في المصالح الاقتصادية والعسكرية، والأخيرة لجهة التسليح وتوطين صناعته في دول المنطقة العربية، وفي دول جوارها الإسلامي وتحديدا إيران، ما يقود وما هو حاصل فعليا في الوقت الحاضر؛ إلى صراع القوى الدولية على مناطق النفوذ في المنطقة العربية وفي جوارها؛ في الاقتصاد والتجارة والمال والأعمال والطاقة، والتدافع في عروض بيع الأسلحة.. وهنا يبرز سؤال هل هو صراع تنافسي، أم تصادمي، أم هو وسط بين الحالين؟ وكيف تتكون وتتشكل هذه المسارات مستقبلا؟ وما علاقة كل هذا مع ما يجري من التحضير لتصفير المشاكل في المنطقة؛ أو تبريدها؟ قبل الخوض في هذه الحلحلة ومجرياتها؛ من الأهمية الإشارة إلى أن السعودية لن تبتعد كثيرا عن الولايات المتحدة هذا أولا، وثانيا أن السعودية وبالذات تحت إدارة أو رئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تخطط وخططت قبل الآن بوقت طويل، على أن لا تضع جميع حاجاتها التكتيكية والاستراتيجية في سلة واحدة، بل تنويع سلال تحريكها كي تمنحها حرية الحركة في المواجهة والمحافظة على أمنها في فضاءات رحبة ومفتوحة، بلا اشتراط وشروط، بالإضافة إلى هذا، فإن هذه السياسة ستمنحها وسائل ضغط على الشريك الأمريكي، هذا أولا، وثانيا وهذا هو الأهم؛ البدء الفعلي في تنويع مصادر السلاح وتوطين بعضه الآن وتوسعته مستقبلا.
أما إيران فإنها تعمل دوما على استثمار نتائج صراع القوى الدولية الكبرى لصالح مشاريعها، فهي تعمل على تبريد الأوضاع بطريقة أو بأخرى؛ حتى يكون بإمكانها تمرير مشاريعها بلا صخب ولا ضجيج؛ يثير حولها عاصفة من غبار التوجس والتشكيك والخوف من المحطات النهائية لهذه المشاريع التي تحولها واقعيا إلى دولة إقليمية كبرى، قادرة على المحافظة على مصالحها السياسية والاستراتيجية، وما هو متصل بالاثنين في فضاءاتها الإقليمية وحتى خارج هذه الفضاءات في الفضاءات الدولية ذات الصلة والارتباط بالفضاءات الإقليمية. هذا لا ينطبق على إيران فقط بل على تركيا أيضا.. لنترك اليمن ولبنان وغيرهما جانبا، ولنأخذ سوريا، وما ينطبق عليها ينطبق أيضا بطريقة أو بأخرى، على بقية دول المنطقة العربية موضوع الصراع. يجري في الوقت الحاضر؛ الانفتاح على النظام السوري، والعمل جار لعودته إلى الجامعة العربية بتوافق جميع الدول العربية تقريبا، وبمباركة القوى الدولية باستثناء أمريكا، ودول الجوار الإسلامي للمنطقة العربية. فقد تم مؤخرا عقد اجتماع تشاوري ضم دول الخليج العربي والأردن ومصر والعراق؛ للبحث بالطريقة الأمثل لعودة سوريا إلى حضنها العربي. هذا الأمر جيد جدا فهو يمهد الطريق لعودة الاستقرار والسلام إلى سوريا، إنما السؤال الأهم؛ هو ما مصير مطالب الشعب السوري في الحرية وإقامة نظام ديمقراطي يحافظ على كرامة الشعب وحريته وإرادته في انتخاب من يمثله في إدارة شؤون الدولة، التي هي في الأول والأخير شؤون حياته وأمنه وكرامته وتطوره وتنمية موارده والاستقلال الناجز لدولته وسيادتها، بلا قواعد أجنبية تكسر استقلاله وتجرح سيادته. إذا أرادت الدول الإقليمية الكبرى، سواء العربية منها أو دول المحيط الإسلامي المجاور لسوريا والمنطقة العربية؛ أن تكون سوريا الدولة والحكومة تمثلان إرادة الشعب؛ فيجب أن يكون هناك دستور جديد ونظام ديمقراطي يمثل تمثيلا حقيقيا إرادة الشعب السوري. هنا يصبح من السهولة قانونيا العمل على إجلاء القوات الأجنبية من سوريا وبالذات القوات الأمريكية. هذا الجانب من التحليل، وهو جانب افتراضي يقع في خانة التمنيات، أما الواقع فربما يكون خلاف هذه الافتراضات. المسؤولون الأمريكيون يصرحون ليلا ونهارا؛ بأهمية إقامة نظام ديمقراطي في سوريا؛ حتى يتم رفع العقوبات عنها وإعادتها إلى الصف العربي والدولي. هذه التصريحات الأمريكية ما هي إلا كلمة حق يراد بها باطل. من الصعوبة تصور أن التحرك العربي نحو تطبيع العلاقات العربية مع سوريا النظام يتم دون مباركة أمريكية خفية، أو على أقل تقدير ضوء أخضر أمريكي. صحيح هناك تباعد بين الادارة الامريكية الحالية والمملكة العربية السعودية، لكنه تباعد تكتيكي يقع على خط تقليص حظوظ الديمقراطيين في الفوز في الانتخابات الأمريكية المقبلة، بالإضافة إلى خطط السعودية الأخرى، ولا يمس الخط الاستراتيجي لعلاقة الشراكة بين الدولتين. من الممكن جدا أن تكون الدول العظمى في صراع ساخن في مكان ما من العالم وتوافق المصالح في مكان آخر من العالم. هنا لا استبعد حسب قناعتي؛ أن تتم ربما في المستقبل القريب؛ تسوية الأوضاع في سوريا تحت حكم النظام الحالي، بتوافق الدول الإقليمية الكبرى العربية منها والأخرى من الجوار الاسلامي، والقوى الدولية الكبرى، وبالذات التي لها أدوار لعبتها على أرض الواقع في سوريا، في صفقة ربما لا تكون معلنة، أو ربما البعض من بنود هذه الصفقة لا تكون معلنة، وإن حدثت وصارت واقعا على الأرض، قد يكون من أهم بنودها؛ ترتيب علاقة النظام السوري مع دول الجوار، بلا استثناء.. وفلسطين في القلب منها؛ من خلال أو عبر؛ تنظيم أو إقامة غرفة مظلمة، يجري التفاوض فيها بعد إغلاق بابها بأحكام. في الختام اقول؛ لا شيء مستبعد أو خيالي في عالم المصالح والتوافقات والمقايضات الدولية والإقليمية، والأخيرة سواء العربية منها أو غيرها من الدول الاقليمية الكبرى. التي يتم تحت دروبها الصخرية؛ دفن إرادة الناس..

القدس العربي