هل يحدث رحيل إردوغان المحتمل عن السلطة تحولات جيوسياسية في أوروبا؟

هل يحدث رحيل إردوغان المحتمل عن السلطة تحولات جيوسياسية في أوروبا؟

نادراً ما حظيت انتخابات رئاسية تركية بهذا القدر من الاهتمام الإقليمي والدولي. ففي المرتين السابقتين، كانت نتيجة الانتخابات بعيدة عن أي مفاجآت نظراً لهيمنة الرئيس رجب طيب إردوغان على المشهد السياسي في بلاده منذ أكثر من عشرين عاماً، وبسبب تشظي المعارضة. والحال، أن الأخير الذي يسعى لولاية رئاسية ثالثة، يواجه هذه المرة معارضة موحدة، ومرشحاً يتسم بالجدية والاتزان، نجح في فرض نفسه كرجل دولة يحمل برنامجاً سياسياً واقتصادياً متيناً، ويعد بإيجاد حلول للمشكلات التي تعاني منها تركيا اليوم، وعلى رأسها المشكلات الاقتصادية والمالية، والتضخم، وانهيار الليرة.

رغم الاستدارات التي سلكها إردوغان في الخارج، وسعيه لاستغلال الحرب في أوكرانيا ليعود بقوة إلى واجهة المشهد الدولي، ويفرض نفسه محاوراً وحيداً للرئيس الروسي من قلب الحلف الأطلسي، فإن الواضح اليوم أن الغرب لن يذرف عليه الدموع في حال هزيمته الانتخابية وفوز منافسه كمال كليتشدار أوغلو.

يقول ديديه بيون، الخبير في الشؤون التركية وصاحب كتاب «تركيا: الشريك الإلزامي» الصادر مؤخراً عن دار «أيرول للنشر»، في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن تركيا «بحاجة لنوع من التجديد؛ لأن عامل التآكل أو الاهتراء موجود، ويلعب ضد الرئيس الحالي الذي استخدم دوماً عامل الاستقطاب الداخلي لإرساء سلطته».

ومن الأوراق التي تلعب ضده صورة أنه «ليس صديقاً للحريات العامة والخاصة، بما فيها حرية الصحافة»، الأمر الذي أبعد عنه الليبراليين.

وفي المقابل، فإن شخصية منافسه الرئيسي تتميز بالهدوء والرصانة والثبات، وكلها تتناقض مع شخصية إردوغان الاستقطابية، وفق الباحث الفرنسي. ويضيف أن تركيا بحاجة لـ«فترة من الهدوء»، علماً أن الأتراك أوجدوا صفتين لمرشح المعارضة البالغ من العمر 74 عاماً؛ الأولى، أنه «القوة الهادئة»، والثانية أنه «غاندي تركيا» تيمناً بالزعيم الهندي الذي رفض اللجوء إلى العنف لتمكين الهند من الحصول على استقلالها.

كثيرة هي الأصوات التي ترى أن خروج إردوغان اليوم من المشهد السياسي التركي سيعد على المستويين الأوروبي والغربي، بشكل عام، بمثابة «تحوّل إيجابي»؛ فقد قادت بعض التصريحات والمواقف في السنوات السابقة بعداوات لا تحصى مع الأوروبيين ومع الولايات المتحدة الأميركية. وآخر ما يؤخذ على إردوغان بشكل إجماعي على المستوى الغربي، هو رفضه حتى اليوم التصديق على انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي. وتركيا هي العضو الأطلسي الوحيد الذي لم يقر برلمانه انضمام السويد، بعد أن قبل مؤخراً انضمام فنلندا رغم الضغوط الأوروبية والأميركية. كذلك يؤخذ عليه أن أنقرة، رغم تنديدها بالغزو الروسي لأوكرانيا، فإنها لا تطبق العقوبات الأوروبية والأميركية. ومن الواضح أن إردوغان يعي اليوم حاجة الغربيين له، وهو الذي تشكل بلاده الجناح الجنوبي للحلف الأطلسي؛ ولذا فإن الانتقادات الموجهة إليه تبقى في دوائر ضيقة ومحدودة.

والحرب في أوكرانيا لم تمنع إردوغان وبوتين من المشاركة عن بُعد في تدشين أولى المحطات النووي التركية الواقعة جنوب تركيا وقرب مياه المتوسط، التي شيدها الجانب الروسي ومول القسم الأكبر منها. ونقلت صحيفة «لو موند» في عددها ليوم الجمعة عن مارك بياريني، السفير الأسبق في أنقرة والباحث في معهد «كارنيغي أوروبا» قوله إن «انتصار إردوغان سيعني انتصاراً لبوتين»، وأن هزيمته ستكون «هدية» للغربيين. ويضيف بياريني أن التحدي الكبير بالنسبة للأوروبيين والغربيين، بشكل عام، هو نوعية علاقة تركيا المستقبلية مع الحلف الأطلسي، وذلك على ضوء علاقتها القائمة مع روسيا.

حتى اليوم، لم ينس الأوروبيون أسلوب إردوغان في التهجم على القادة الغربيين. ففي عام 2017، لم يتردد الرئيس التركي الذي كان يخوض الانتخابات الرئاسية السابقة، في اتهام المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل بـ«ممارسات نازية»؛ لأنها منعت مهرجانات انتخابية موالية له في عدد من المدن الألمانية. كذلك، وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2020 بأنه «مختل عقليا»، ونصحه باللجوء إلى الأطباء النفسيين للمعالجة بسبب ترويجه مشروع قانون لمحاربة ما سماه «الانفصالية الإسلامية» في بلاده. وسبق لماكرون أن انتقد بشدة تصرف البحرية التركية في مياه المتوسط ومقابل الشواطئ الليبية، عندما سعت باخرة عسكرية فرنسية تعمل تحت لواء الأطلسي لتفتيش سفينة تركية كان يظن أنها تنقل سلاحاً مهرباً لليبيا.

ووصف ماكرون وقتها الحلف بأنه في «حالة موت سريري». ثم إن إردوغان وجد نفسه وجهاً لوجه مع الغربيين في سوريا، حيث كان الغربيون يدعمون وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا وقوات سوريا الديمقراطية التي قاتلت ميليشيات «داعش»، فيما يعدها إردوغان وحدات إرهابية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، ويسعى إلى اقتلاعها من شمال وشمال غربي سوريا.

أخيراً، تسبّب إردوغان بصداع للأوروبيين بسبب أنشطته في التنقيب عن الغاز والبترول في المياه الإقليمية العائدة لليونان وقبرص، الأمر الذي أوجد حالة من التوتر في المتوسط، بالتوازي مع استخدامه ورقة اللاجئين السوريين على أراضيه كلما أراد الضغط على الاتحاد الأوروبي. ثم ثمة مآخذ كثيرة على إردوغان المتهم بتجيير القضاء لصالحه، والتضييق على الحريات والفساد الذي ينخر المجتمع والاقتصاد التركيين.

 

ولاكتمال الصورة، تتعين الإشارة إلى خلافه مع الولايات المتحدة، الأمر الذي دفعه لإبرام اتفاق مع روسيا للحصول على منظومة صاروخية من طراز «إس 400»، ما حمل واشنطن على إخراجه من برنامج الطائرة المقاتلة «إف 35»، إلا أنه قبلت لاحقاً، ومع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، جرى تزويده بطائرات «إف 16» حديثة.

تحديات قائمة

تشكل العناصر المذكورة سابقاً أسباباً وجيهة تدفع الغربيين لتفضيل هزيمة إردوغان وفوز منافسه. بيد أن هذا التمني يبقى خبيئاً؛ لأن إردوغان، في حال ظهر إلى العلن، سوف يستخدمه سلاحاً في حملته الانتخابية من أجل اتهام الغرب بالتدخل في الشؤون الداخلية التركية. وتقول أرنشا غونزاليس، عميدة «معهد الشؤون الدولية» التابع لمعهد العلوم السياسية في باريس إنه «إذا تمكن الأتراك من إزاحة إردوغان، فإن ذلك سيشكل تحولاً جيوسياسياً رئيسياً».

وبعكس الرئيس الحالي، فإن كمال كليتشدار أوغلو أكد أكثر من مرة، منذ ترشحه، أنه يسعى لـ«تطبيع» علاقاته مع الغربيين وغير الغربيين، ما يذكر بمقولة وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو الذي كان يدعو لـ«تصفير المشكلات» مع الخارج. وتجدر الإشارة إلى أن الأخير عضو في التحالف السداسي الذي يدعم مرشح المعارضة، وفي حال فوزه سيكون الأقرب للعودة إلى وزارة الخارجية.

ثمة مسألة عالقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي عنوانها رغبة أنقرة في الانضمام إلى النادي الأوروبي؛ ولهذا الغرض، قامت منذ 15 عاماً مفاوضات بين الجانبين، وحتى اليوم ما زالت هناك فصول لم يبدأ البحث بها، فيما تغلب على الرأي العام الأوروبي نزعة رفض انضمام تركيا التي تملك تعداداً 85 مليون نسمة إلى الاتحاد.

وبموجب القوانين التأسيسية للاتحاد فإن الموافقة على انضمام عضو جديد يجب أن تمر في برلمانات الـ27 عضواً، ما يعني عملياً أن حظوظ تركيا في الانضمام معدومة. ومن هنا، يرى المحللون أن فوز كليتشدار أوغلو لن يحل المشكلات العالقة مع الاتحاد الأوروبي بسحر ساحر، بل إن علاقات أنقرة مع بروكسل يمكن أن تتحول إلى علاقات «طبيعية»، ما يعد تغيراً مهماً في الأجواء السائدة بين الطرفين.

هكذا تبرز التحديات الأوروبية والأميركية الكامنة في الانتخابات التركية، وتتضح خصوصاً انعكاساتها الجيوسياسية وتأثيراتها على مستقبل القارة القديمة.

الشرق الأوسط