ضجّت منصات العالم الافتراضي بالدعاء للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالفوز في الانتخابات التي جرت مؤخرا، ومازال التوسل بالدعاء قائما أملا في أن يفوز الرجل في الجولة الثانية. تلك حالة صحية أن تتفاعل مع حدث دولي أو إقليمي، أو أن يعتريك الإعجاب بشخصية سياسية تحكم في هذا البلد أو ذاك، لكن أن تتخذه رمزا وزعيما وقائدا، وتنظر اليه بعين المحب الكليلة عن كل عيب، وهو لا يستطيع أن يقدم لك شيئا فهذه هي المعضلة.
في جردة بسيطة وسريعة لما فعلته تركيا في ظل حكم الرئيس أردوغان نجد أنها تحتل أراضي سوريّة جنبا الى جنب مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وإيران وإسرائيل، وترفض الانسحاب منها. واستخدمت اللاجئين السوريين كإحدى وسائل صنع السياسة الخارجية، من خلال تهديد الغرب بفتح الأبواب البحرية والبرية أمام هؤلاء للتدفق على أوروبا، إنْ لم يدفع الغرب مليارات الدولارات الى خزينتها. وأخلّت بالاتفاقات الدولية والثنائية مع العراق في موضوع المياه، مما تسببت بأضرار جسيمة في قطاع الزراعة والري، حتى تحول نهر دجلة الى مجرى مائي صغير، يقطعه الأطفال مشيا من ساحله الإيسر الى الأيمن في بعض المناطق، وقصفت بالمدفعية والطائرات شمالي العراق وسوريا، فأصاب الضرر المدنيين في المدن والقرى المتاخمة للحدود، أثناء عملياتها في تعقب المعارضين الأكراد، كما تعرّض اللاجئون السوريون في تركيا بشكل خاص الى حملات عنصرية، لم تستطع السلطات هناك حمايتهم. واحتضنت الإسلام السياسي العربي ووفرت لهم منصات إعلامية كبيرة، وتبين أنها كانت تستخدمهم كوسيلة من وسائل صنع سياساتها الخارجية ضد بلدانهم، حين طلبت منهم التوقف عن مهاجمة بعض الأنظمة العربية حين حسنت علاقاتها معها.
أما في موضوع القضية الفلسطينية فقد كانت تركيا الاردوغانية أكبر ظاهرة صوتية فيها. ففي هذا الملف لم تقدّم تركيا في عهد أردوغان سوى الكلام والتصريحات، وتقليل التمثيل الدبلوماسي مع الكيان الصهيوني ثم العودة الى العلاقات الطبيعية مع إسرائيل. ولا يستطيع أي مُعجب بالرئيس التركي أن يتنكر للتعاون الاستخباراتي بين أنقرة وتل أبيب، ولا التعاون العسكري القائم بين القوات المسلحة التركية ونظيرتها في إسرائيل، علما أن تدريبات القوة الجوية الإسرائيلية كانت دائما تتخذ من الأجواء التركية ساحة لها. أسالوا الفصائل المسلحة الفلسطينية عن ماهية الدعم الذي تقدمه تركيا إليهم ستجدون الجواب لا شيء سوى الدعم اللفظي فقط.
مشكلة الإنسان في الشرق إنه لا يستطيع العيش في الحياة بدون رمز، قد يكون هذا الرمز ممن يمثلون الزعامات الوجاهية كشيخ القبيلة أو رجل الدين، وقد يكون زعيما سياسيا أو قائد دولة
ومع كل ما قيل آنفا فإن ذلك لا يُعتبر عارا في السياسة بصورة عامة، ولا في السياسة التركية أيضا، كما لا ينتقص من مكانة الرئيس التركي أردوغان فهذه هي دروب السياسة المليئة بالأوحال والمساومات والاستثمارات، والرجل يريد أن يقود بلاده إلى الأمام بطرق مختلفة، وأن يستعيد إيمان تركيا بنفسها. وربما لديه تصور في إجراء تغيير عميق للتاريخ الذي يدور حول بلاده، كما أن الوظائف والالتزامات الأخلاقية للحكومات ليست هي نفسها تلك الخاصة بالفرد، فالتزامها الأساسي هو مصالح المجتمع الوطني الذي تمثله، وليس الدوافع الأخلاقية التي قد تتعرض لها الدول الأخرى والمجتمعات المجاورة. بمعنى أن صانع السياسة التركية ليس المطلوب منه أن يأخذ بنظر الاعتبار مصالح الآخرين من خارج الحدود. إن ما يهمه أولا وقبل كل شيء مصالح أمنه، وسلامة النظام السياسي الذي يقوده، ورفاهية وأمن ورضا شعبه. وكل هذه الجوانب ليس لها صفة أخلاقية في العمل السياسي. إذن لماذا يتخذ بعض المواطنين العرب من الرئيس التركي أردوغان رمزا وهو ليس زعيمهم، ويتطرفون في الدفاع عنه ضد منافسيه السياسيين من أبناء بلده؟
قديما قالت العرب (ماحكّ جلدك مثل ظفرك)، وهو توصيف بارع بأن الحلول لا تأتي من الآخرين. لكن مشكلة الإنسان في الشرق أنه لا يستطيع العيش في الحياة بدون رمز، قد يكون هذا الرمز ممن يمثلون الزعامات الوجاهية، كشيخ القبيلة أو رجل الدين، كما قد يكون زعيما سياسيا أو قائد دولة. وهذا العشق والتعلق بالشخصية الرمزية فيه من التطرف الشيء الكثير الى الحد أن الأوطان في الشرق قد تنهار في حالة موت الرمز، أو غيابه عن المشهد لسبب أو آخر. ومن يقرأ التاريخ العربي والإسلامي يجد أنه يُروى على أنه قصة زعماء وقادة، كانوا يصنعون الأحداث ويقودونها ويوجهونها ويقاومون القوى الأخرى، ويتحدون الضغوط السياسية المحلية والإقليمية والظروف الدولية، من أجل رسم مسارات الحياة العربية وتحقيق مصالح الأمة. ثم بدأ أفول الزعامات يسري شيئا فشيئا في الحياة العربية، حتى وصلنا الى التاريخ السياسي الحديث، فغاب جمال عبد الناصر، وهواري بومدين، والملك فيصل ال سعود، وياسر عرفات، وصدام حسين. ورغم أن بعض هؤلاء القادة يوصفون، وفق المفاهيم السياسية الحالية، بأنهم من دعاة التحديث الاستبدادي، كانوا رموزا كبيرة في الحياة السياسية العربية، وتعامل المجتمع الدولي معهم على هذا الأساس أيضا. كما كانوا قادرين على إعطاء جرعات من الأمل للشعب العربي، بأن تنهض مجتمعاتهم الى مستوى المجتمعات الأخرى، وأن تصبح دولهم قادرة على النديّة في المسرح الدولي. يقول نابليون «القائد هو تاجر في الأمل. ورغم أن الامل ليس خطة لكن لعل الأكثر تفاؤلا هو التأكيد المدفون بداخله على أننا سنقدم تطبيقا).
اليوم، ونحن نشهد هذا التعذيب الذي لا هوادة فيه في الحياة السياسية العربية، المليئة بالثغرات الوعرة، والامتدادات المتعرجة، والسائرة بلا وجهة، والخالية من الرمزية، والفاقدة للقيادة الفعالة والحكيمة، هو تعذيب محبط أدى الى إغراق الأمة في دوامة من اليأس، مما يدفع غالبية الشعب العربي إلى التساؤل الدائم: هل سينتهي ذلك؟ في حين أن البعض، وبسبب هذا المنعطف الخطير والمنخفض السياسي الذي نعيشه، شرعوا أبوابهم ونوافذهم لرياح الضغط السياسي العالي القادم من خارج الحدود، واتخذوا من أردوغان وخامنئي زعامات سياسية لهم. في حين إن إجراء الحساب السياسي النهائي للرجلين، حول كيفية تعاملهما مع الأمة العربية، سيكون من الصعب عليهما الاختباء من العدد الهائل من الأضرار التي تسببا فيها، بل أنهما معا على دراية تامة بكل التهم الموجهة لهما، والخالية تماما من الظلال الرمادية. والمشكلة الكبرى أن الكلمات التي تخرج من أفواه الرجلين في كل المناسبات، على العكس تماما من تلك التي ينشرها لسان حال سياساتهما تجاهنا فالأفعال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات.
إن الواقع الذي يجب الاعتراف به وعدم التهرب منه هو أن المشكلة الأساسية هي في الأمة وليس في الآخرين. والتهمة التي يمكن توجيهها للنظام الرسمي العربي، هي أنه بدلا من اتباع استراتيجية واضحة للنهوض بالأمة، فإن هذا النظام يدافع عن نفسه بدلا من احتياجات الجمهور فيبدو وكأنه نظام أصم. لذلك لن يغيّر القائمون عليه أساليب عملهم السياسي، هم فقط يغيّرون الأداة التي يطحنون بها شعوبهم.
القدس العربي