القاهرة – نكأ حادث غرق مركب قبالة السواحل اليونانية الكثير من جراح الهجرة غير الشرعية بين مصر وليبيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، بعد أن وضع كل طرف مسؤولية الحادث على الآخر، بشكل يعكس غياب التفاهم والتوافق الأمني والسياسي بين الدول الفاعلة في ملف مكافحة الهجرة غير الشرعية، ما يمهد لسقوط ضحايا جدد.
وردّت مصر على حادث غرق مركب هجرة قبالة السواحل اليونانية على متنه المئات من المهاجرين غير الشرعيين من جنسيات مختلفة، بتأكيدها أنها اضطلعت بمسؤولياتها على مدار سنوات وضبطت حدودها ومنعت الهجرة عبر سواحلها.
وتتواصل سفارة مصر في أثينا مع السلطات اليونانية المعنية بشأن عمليات البحث عن مفقودين وانتشال جثامين الضحايا للتأكد من هوية وأعداد المصريين، وتتابع وضع الناجين ممن تم التعرف عليهم لتقديم الخدمات اللازمة لهم.
وأدانت القاهرة قيام العصابات المنظمة لجرائم الهجرة غير الشرعية باستغلال حاجة البعض ممن يبحثون عن فرص أفضل للحياة والعمل، معرضة حياتهم لمخاطر الموت وفقدان الأمل، واستمرار إجراءاتها الحاسمة والرادعة لمواجهة هذه الجرائم. وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها زورق يحمل مهاجرين غير شرعيين للغرق قبالة سواحل اليونان على متنه مصريون ومواطنون من جنسيات مختلفة.
وقذفت مصر اتهامها بالتراخي بعيدا عنها، ملمّحة إلى أن ليبيا مسؤولة عن خروج سفينة الصيد التي غرقت في اليونان، بينما التحقيقات التي تجريها السلطات في أثينا تشير إلى تورط تسعة أشخاص مصريين في الاتجار بالبشر، لعبوا دورا في العصابة المسؤولة عن تهريب المهاجرين غير الشرعيين من ناحية اليونان.
ومن المقرر أن يمثل المصريون التسعة المشتبه في تورطهم في كارثة غرق القارب أمام المحكمة في مدينة كالاماتا الاثنين، بتهمة تشكيل عصابة إجرامية والتسبب في حادث غرق القارب والتورط في الاتجار في البشر.
وحمل القارب نحو 700 شخص، بينهم مئة طفل، وغرق في البحر المتوسط قبالة ساحل شبه جزيرة بيلوبونيز اليونانية الأربعاء، وتم انتشال 78 جثة.
وقالت فريدريكو سودا مديرة إدارة الطوارئ بمنظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة “من الواضح أن النهج الحالي المتبع في البحر المتوسط غير عملي، وعلى الدول أن تتكاتف وتعالج الثغرات في عمليات البحث والإنقاذ، وعمليات الإخلاء السريع، واتباع المسارات المنتظمة الآمنة”.
ودعت جيليان تريغز مساعدة المفوض السامي لشؤون الحماية بوكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى المزيد من التنسيق والتضامن وتقاسم المسؤولية بين دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة الأزمة.
وتعكس الخلافات بين مصر وليبيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي حول الجهة المتخاذلة في منع خروج مركب المهاجرين غير الشرعيين عمق الأزمة الحالية، وسط تلويح القاهرة بعدم قدرتها على تقديم المزيد من الجهود في هذا الملف، ولا يمكن تجاهل تأزم الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا، وتأثيرها على الهجرة غير الشرعية.
وبدأ قارب الصيد الكبير الغارق رحلته من مصر وبعدها توقف في طبرق بشرق ليبيا، وصعد المزيد من الأشخاص على ظهره قبل أن يبحر صوب إيطاليا عبر سواحل اليونان، وعقب انتهاء التحقيقات للتأكد من خط السير الذي أشارت إليه تقارير يونانية، فإن القاهرة ستضع نفسها في ورطة أمام دول الاتحاد الأوروبي.
ووقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقا مع القاهرة العام الماضي يتعلق بالمرحلة الأولى من برنامج لإدارة الحدود بقيمة 80 مليون يورو، جراء تزايد الهجرة المصرية غير الشرعية إلى أوروبا عبر ليبيا.
وجاء هذا الدعم المالي كمساعدة لحرس الحدود وخفر السواحل في مصر للحد من الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر على الحدود، وتضمن شراء “معدات مراقبة وسفن بحث وإنقاذ وكاميرات وأنظمة تحديد المواقع عبر الأقمار الاصطناعية”.
ولدى الاتحاد الأوروبي قناعة بأن تعامل القاهرة مع الهجرة غير الشرعية يتم من منظور أمني، وأحيانا على حساب الأبعاد الأخرى لإدارة الهجرة، بما في ذلك حماية المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء القائمة على الحقوق، لكن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يتمسك بأن موقف بلاده من مكافحة الهجرة “إنساني بحت”.
ونجحت القاهرة في ضبط حدودها وسواحلها كونها تعاملت مع ملف الهجرة من منظور أمني وارتبط بوجود عامل مشترك بين الهجرة غير الشرعية والعمليات الإرهابية، وتم القضاء على المتطرفين، ما يفسر تراخي القبضة الأمنية.
وباتت مصر منزعجة من تعامل الاتحاد الأوروبي معها كأنها “شرطي البحر المتوسط”، دون أن تحصل على المردود المادي والمعنوي المناسب، بينما يتم تحميلها فاتورة باهظة إذا نجح مهاجرون غير شرعيين في الوصول إلى دولة أوروبية أو تعرض مركب للغرق قبل الوصول إلى القارة العجوز.
وأكد اللواء يحيى الكدواني عضو لجنة الأمن القومي بمجلس النواب المصري لـ”العرب” أن الاتحاد الأوروبي يقدم حلولا غير واقعية لأزمة الهجرة غير الشرعية، ويريد تحميل مصر مسؤولية كل مركب يصل إليها بلا استيعاب لحالة عدم الاستقرار التي تعيشها ليبيا التي منحت الفرصة لتجار وسماسرة الهجرة لاستغلالها بعيدا عن أعين الأمن، كما أن مصر لم تبتز أحدا، مثلما فعلت تركيا مع ألمانيا منذ سنوات.
◙ الخلافات بين مصر وليبيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي حول الجهة المتخاذلة في منع خروج مركب المهاجرين غير الشرعيين تعكس عمق الأزمة الحالية
ويصعب فصل تراجع سيطرة القاهرة نسبيا على عملية حصار عصابات التهريب والهجرة والاتجار بالبشر عن المشكلات الاقتصادية التي تثير غضب الشارع في مصر، أو التوترات الأمنية الواقعة على الحدود الليبية والفلسطينية والسودانية، وكلها صارت مصدر قلق بالغ للأمن القومي المصري.
وأوضح الكدواني أن قبضة مصر على الهجرة غير الشرعية لم تتراجع، لكن المعضلة في السواحل الليبية التي يمكن استغلالها، وعلى الدول الأوروبية أن تكون معنية ببذل المزيد من الجهود والدعم لضبط السواحل في ليبيا من خلال مساعدتها بأجهزة المراقبة وتقديم وسائل لوجيستية للحد من تفاقم الظاهرة.
وتوفر الأزمات الداخلية التي تعاني منها ليبيا مناخا مواتيا لتزايد عمليات الهجرة، لكن وجود مهاجرين غير شرعيين يحملون جنسية مصر يثير شكوكا حول طريقة تعاملها مع ملف الهجرة الآن، كأنها تريد توصيل رسالة بأنها غير قادرة على منح المزيد من الحماية المجانية لدول الاتحاد الأوروبي.
وحذرت مصر من تبعات تحميلها فاتورة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا بتدفقات غير مسبوقة دون تحديد مسؤولية كل طرف له علاقة بالملف وتهميش الانفلات الأمني في ليبيا التي تحولت إلى بؤرة لتجمع مهاجرين مصريين وأفارقة للفرار إلى أوروبا.
ويربط مراقبون بين تراجع القبضة الأمنية المصرية على الهجرة غير الشرعية وبين عدم إدراك الاتحاد الأوروبي للأزمات التي تعاني منها مصر من استقبال واستقرار الملايين من اللاجئين على أراضيها وتحمل دول أوروبا مسؤوليتها في المساعدة الجادة تجاه ملف النازحين إلى مصر، وهي إشكالية لم تصل فيها أوروبا إلى تفاهمات مشتركة.
العرب