ما بين النفي الأميركي والتأكيد الذي يقارب اليقين الإيراني، بوجود مفاوضات مباشرة وغير مباشرة في نيويورك وسلطنة عمان، يبدو أن الطرفين قد توصلا إلى صيغة ما للتفاهم حول الأنشطة النووية لنظام طهران، من بوابة التفاوض على مصير سجناء يحملون الجنسية الأميركية سبق أن اعتقلهم النظام خلال الأعوام الماضية، بحجة التعامل مع العدو ضد المصالح الوطنية.
وإذا ما نجحت هذه الصيغة في التوصل إلى تفاهم يسمح لإيران بالحصول على جزء من الأموال المجمدة في البنوك الخارجية والعودة لسوق الطاقة الدولية وبيع نفطها والحصول على عائداته، فإن الأصوات المعارضة للاتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة (5+1) في يوليو (تموز) 2015 سترفع صوتها وعقيرتها في مواجهة الأصوات الداخلية المطالبة أو الداعية إلى ضرورة التوصل لتفاهم مع الإدارة الأميركية يسمح بالعودة لهذا الاتفاق وإحيائه من جديد، باعتباره مدخلاً لتطبيع العلاقة مع المجتمع الدولي والخروج من دائرة العقوبات، ويصبح من الممكن الانتقال إلى وضع علاجات جادة وحقيقية للأوضاع الاقتصادية المأزومة بشكل غير مسبوق.
في الأدبيات التي استخدمها معارضو “اتفاق 2015″، وهي الأدبيات نفسها التي هيمنت وسيطرت على مواقف وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان ومساعده السياسي مسؤول الفريق المفاوض علي باقري كني، وارتكزت إلى مبدأ واحد وهو أن المفاوضات التي يخوضها النظام تهدف إلى إلغاء العقوبات الاقتصادية باعتبار أن طهران لم تنسحب من الاتفاق السابق، والمطلوب من الولايات المتحدة أن تتخلى عن سياساتها العقابية، يمكن القول إن التيار المتشدد الرافض لـ “اتفاق 2015” استطاع تحقيق ما يريده، واستطاع بناء منظومة علاقات سياسية وعقد اتفاقات وتفاهمات مع كثير من الدول سمحت له بالتخفيف أو الحد من آثار العقوبات الأميركية السلبية في الاقتصاد، وإن الهدف من التفاوض هو الحصول على الأموال المجمدة في البنوك الخارجية واستخدامها في تلبية المطالب المعيشية للمواطن الإيراني، وتسيير عجلة الاقتصاد.
هذا التيار يعتبر نفسه غير معني بعملية بناء الثقة مع المجتمع الدولي أو حتى إمكان تراجع الأنشطة النووية بأي حجم ممكن، كمدخل لتسوية مع هذا المجتمع. ويرى أن النظام استطاع الانتقال من حال تلقي الآثار السلبية للحصار الأميركي إلى حال الاستقرار، من دون أن يكون ملزماً بالتوقيع على معاهدة “باليرمو” لمكافحة تبييض الأموال أو الانضمام إلى (FATF) لمكافحة دعم الإرهاب والجماعات الإرهابية أو تفكيك برنامجه النووي أو القبول بشروط جديدة سبق أن وضعتها الإدارة الأميركية على طاولة التفاوض كمدخل لأي قبول بإعادة إحياء الاتفاق القديم.
الأزمات والمشكلات التي يعانيها النظام وإيران في العلاقة مع المجتمع الدولي، وأن إستراتيجية الصبر التي سبق أن اعتمدها في مواجهة الحصار والعقوبات أوصلت إلى النتائج التي يريدها ويسعى وراءها من دون تقديم أية تنازلات، سواء في الحد من تطوير برنامج الصواريخ الباليستية أو النفوذ الإقليمي ودعم الجماعات الموالية له داخل عواصم دول المنطقة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، وهو الآن غير ملزم بتقديم أية تنازلات في الأنشطة النووية، وعلى استعداد لضرب أي مسار للتفاهم والتراجع عن أي التزام في حال شعر أن ذلك قد يؤدي إلى خدش الصورة التي يحاول رسمها لنفسه أمام قواعده وفي مواجهة خصومه الداخليين، كما حصل في الموقف الذي أطلقه المتحدث باسم الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية الذي نفى أن تكون طهران سلمت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تسجيلات كاميرات المراقبة أو سمحت لها بالوصول إلى الكاميرات أو التسجيلات القديمة والمستقبلية، وهذا يتعارض مع ما تم الاتفاق عليه مع مدير الوكالة رافايل غروسي خلال زيارته إلى طهران في مارس (آذار) الماضي، وهو موقف لا يعني أن الوكالة الإيرانية لم تقدم هذه التسهيلات للوكالة الدولية، وإنما الهدف من هذه المواقف هو إيصال رسالة إلى القوى السياسية الداخلية المعارضة بأن هذه الحكومة الممثلة للتيار المحافظ بكل أجنحته والمنسجمة مع إرادة النظام والدولة العميقة لم تتنازل، وأن ما تقوم به هو انتصارات فقط تخرج عن قدرة القوى الإصلاحية والمعتدلة التي قادت المفاوضات سابقاً وأنتجت “اتفاق جنيف”.
وعلى رغم إمكان أن يكون الإنجاز الذي حققه المفاوض الإيراني بوساطة عُمانية لا يرقى إلى مصاف الاتفاق، إلا أن المهم والمطلوب لدى هذا الفريق هو الحصول على هذه المكاسب بأية صيغة كانت وأية آلية ممكنة، لأن المكاسب التي سيحققها في المدى المنظور هي المطلوبة وهي التي ستسمح له باستعراض إنجازاته وإجبار العدو الأميركي على القبول بالشروط الإيرانية من دون أية تنازلات.
وهذه المكاسب ستعزز روايته أو سرديته حول قدرته على حل الأزمات بالقدرات الذاتية ومن دون الحاجة إلى أي اتفاق مع واشنطن أو الدول الغربية، وأن التحالفات التي عقدها وأنشأها مع روسيا والصين وسياسة الانفتاح على دول الجوار هي التي عززت مواقعه حول طاولة التفاوض وأوصلت إلى هذه النتائج.
وما يحكم إستراتيجية المنظومة المسيطرة على السلطة في النظام هو توظيف هذه الإنجازات المرحلية وغير النهائية في لعبة السلطة والسيطرة، وإفهام القواعد الشعبية أنهم الأقدر على تحقيق مطالب الشعب على العكس من الآخرين، من دون التفريط بما يملكه النظام من أوراق قوة، سواء عسكرياً أو أمنياً أو نووياً، وحتى في النفوذ الإقليمي، وأن حلول الأزمات تأتي عندما تكون الأمور والسلطة مجتمعة في يد هذه الجماعة، وهي مستمرة طالما هم على رأس المسؤولية، مما يمكنهم ويسمح لهم بتكريس مفهوم الأقدر على تحقيق المطالب والأحرص على مصالح إيران وشعبها على جميع المستويات.
اندبندت عربي