تزايد عدد العوامل “المجهولة المعروفة”، من المحاكمات المحتملة التي قد يخضع لها عناصر “قوات سوريا الديمقراطية” إلى التطبيع المستمر الذي يقوم به الأسد، وأدى ذلك إلى تزايد الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات تتعلق بمعتقلي تنظيم “الدولة الإسلامية”.
نظراً إلى بطء استجابة المجتمع الدولي لإعادة آلاف الأفراد التابعين لتنظيم “الدولة الإسلامية” (“داعش”) إلى الوطن، أعلنت مؤخراً “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” التي يقودها الأكراد أنها ستبدأ بإجراء “محاكمات عادلة وشفافة وفقاً للقوانين الدولية والمحلية المتعلقة بالإرهاب”. ويأتي هذا الإعلان في أعقاب اجتماع وزاري عقده “التحالف الدولي ضد تنظيم داعش” في المملكة العربية السعودية في 8 حزيران/يونيو وحضره ممثلون من أكثر من ثمانين دولة، وذكّر في إطاره وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الحاضرين قائلاً “نحن نعلم أن الإعادة إلى الوطن هي الحل الدائم الوحيد”. وقد برز تصريحه في هذا السياق بما أن مواطنين ينتمون إلى الكثير من دول التحالف ما زالوا محتجزين إلى أجلٍ غير مسمى في شمال شرق سوريا.
وفي حين دعت إدارتين أمريكيتين متعاقبتين، بشكل استباقي، إلى الإعادة إلى الوطن، كانت معظم البلدان الأخرى مترددة أو بطيئة في اتخاذ مثل هذا الإجراءات. وأُعيد حتى تاريخ كتابة هذا المقال نحو 5500 عراقي و2700 مواطن من بلدان ثالثة (أي ليسوا سوريين أو عراقيين) إلى أوطانهم من معسكرات الاعتقال، ويعمل المجتمع الدولي على إعادة المزيد من هؤلاء الأفراد في عام 2023 مقارنةً بالسنوات الماضية. ومع أن هذه الإجراءات هي خطوة على المسار الصحيح، فإنها تعني أن أكثر من 10000 مواطن من البلدان الثالثة من حوالي 60 دولة ما زالوا رهن الاحتجاز في شمال شرق سوريا، وهم يشملون حوالي 2000 رجل وصبي و8000 امرأة وقاصر. ولا تشمل هذه الأرقام السوريين والعراقيين الذين يفوق عددهم 18000 سوري و25000 عراقي المحتجزين أيضاً إلى أجلٍ غير مسمى.
وفي ظل تعدد النزاعات الدولية التي تحتل عناوين الصحف اليومية، لا شك في أن جزءاً كبيراً من المجتمع الدولي قد أرهقته التحديات التي يفرضها القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” وإعادة الأفراد التابعين له إلى الوطن. ولكن يُظهر إعلان “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” والتطورات الأخرى أن هذه التحديات ستزيد إذا لم تحظَ باهتمام منسَّق من واشنطن وشركائها في التحالف.
“المجهولة المعروفة”
تضاعفت العوامل “المجهولة المعروفة” في شمال شرق سوريا – أي العوامل القادرة على زعزعة استقرار الوضع المحفوف بالمخاطر وبالتالي التأثير على الأفراد المنتمين إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” المحتجزين في المنطقة – بدرجة مقلقة في الأشهر الأخيرة. وتتمحور هذه العوامل حول خمس قضايا أساسية، بعضها ملح أكثر من غيرها وهي:
إعلان “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” عن المحاكمات. لا يُعرف سوى القليل عن موعد بدء هذه المحاكمات أو مَن سيُحاكم. والمعروف هو أن دعم الولايات المتحدة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” – إحدى الجهات العسكرية الرئيسية الفاعلة في “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” – شكّل عنصراً حيوياً في القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. وكما أشار الجنرال ماثيو ماكفارلين، قائد “قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب”، إن “قوات سوريا الديمقراطية” هي “الشريك الرئيسي” لأمريكا في سوريا وكانت شريكها الرئيسي أيضاً في مختلف مراحل الحملة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. إلا أن قرار محاكمة المواطنين الأجانب في “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” يمكن أن يضر بهذه العلاقة. كما أن المجتمع الدولي ككل لن يتوصل على الأرجح إلى إجماعٍ حول هذه القضية أيضاً. فعلى سبيل المثال، تَعتبر تركيا الحليفة في منظمة “الناتو” أن “قوات سوريا الديمقراطية” هي كيان معادٍ، بحجة ارتباطها بـ”حزب العمال الكردستاني” – المصنف من قبل الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية والذي هو العدو المحلي لأنقرة منذ فترة طويلة.
زيادة التطبيع مع نظام الأسد. برز هذا العامل الذي قد يزعزع الاستقرار إلى الواجهة في ظل تطوّرين حصلا مؤخراً هما: قرار “جامعة الدول العربية” بعودة سوريا إليها بكل طيبة خاطر على ما يبدو، والمحادثات الرباعية بين تركيا وسوريا وروسيا وإيران. ومع أن هاتين الخطوتين لن تغيّرا الوضع على الأرض بين ليلةٍ وضحاها، إلّا أنه لا يمكن التغاضي عما قد تعنيان بالنسبة إلى المنطقة المتنازع عليها في شمال شرق سوريا وآلاف المعتقلين فيها من البلدان الثالثة. على سبيل المثال، إذا مكّن التطبيع بشار الأسد من السيطرة على المنطقة، فقد يتخذ عدداً من الخطوات التي تتعلق بهؤلاء المعتقلين تتراوح بين إطلاق سراحهم لينعموا بالحرية، أو سجنهم أو قتلهم، أو احتجازهم مقابل فدية كأدوات للتفاوض مع بلدانهم الأصلية.
التهديدات المستمرة لتنظيم “الدولة الإسلامية”. وفقاً لتقريرٍ صدر مؤخراً عن ” قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب”، “بقيت قدرات تنظيم “داعش” “متدهورة” بسبب الضغط الذي مارسه التحالف لمكافحة الإرهاب، لكن ما زال التنظيم يشكل تهديداً”. وتشمل التهديدات تمرد التنظيم الذي طال أمده (والذي خفّت حدّته ولكنه ما زال قائماً)، واستخدامه عنف العصابات في شمال شرق سوريا والعراق، وتهديداته الخارجية والداخلية لأمن معسكرات الاعتقال والسجون. فقد أشار تنظيم “داعش” صراحةً إلى أنه يعتبر معتقليه أساسيين لنجاحه في المستقبل.
احتمال التدخل التركي. نفذت سابقاً القوات التركية عمليات توغل في شمال شرق سوريا، وقد حذّرت “قوات سوريا الديمقراطية” من أن أي تدخل في المستقبل قد يرغمها على إعادة توجيه الموارد الحيوية المخصصة لمحاربة تنظيم “داعش” والحفاظ على أمن السجون ومراكز الاعتقال التابعة لها، بهدف تحقيق غايات أخرى. كما أن الصراع بين تركيا و”قوات سوريا الديمقراطية” سيضع الولايات المتحدة في موقف محرج بين حليفتها في “الناتو” وشريكتها المحلية الكبرى.
تغير المناخ والكوارث الطبيعية. لا تقتصر الأزمة الإنسانية في الشمال الشرقي على وضع معسكرات الاعتقال، بل تشمل أيضاً عوامل وطنية أوسع نطاقاً مثل الأزمة السياسية في سوريا التي تُفاقم انعدام الأمن الغذائي في بلدٍ يعاني في الأساس من “جفاف حاد وطويل الأجل”. وعلاوةً على ذلك، سلّطت الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا في شباط/فبراير الضوء على شدة ضعف البلدين أمام الكوارث الطبيعية الكبرى. وإذا وقع حادث آخر من هذا القبيل في شمال شرق سوريا – وهي منطقة لا تحكمها دولة بصورة رسمية – فقد يؤدي إلى مواجهة صعوبات أكبر بَعد في تأمين المساعدة المناسبة للمتضررين.
التداعيات السياسية
في حين أن بعض العوامل “المجهولة المعروفة” المذكورة أعلاه قائمة منذ وقتٍ ليس بقصير، يجب أن تشكل الإعلانات الأخيرة بشأن محاكمات “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” والتطبيع مع الأسد سبباً إضافياً يدعو التحالف إلى القلق بشأن مستقبل شمال شرق سوريا والأفراد التابعين لتنظيم “داعش” المعتقلين هناك. وقد شددت الجهود الأخيرة التي ترأستها الولايات المتحدة على الوضع الهش للحكومات الأكثر تردداً التي يزعم الكثير منها أن البطء في استجابتها ينجم عن الصعوبات التي ستواجهها في محاكمة هؤلاء الأفراد، ولا سيما النساء البالغات، عند عودتهم. إلا أن نجاح محاكمات النساء التابعات لتنظيم “داعش” في الولايات المتحدة وألمانيا وهولندا يُظهر أن أفضل الممارسات لمواجهة هذا التحدي متوفرة ويجب الاحتذاء بها.
يشير إعلان “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” بشكل خاص إلى أن الإحباط المحلي من بطء الاستجابة الدولية لهذه القضية قد بلغ ذروته. ويؤدي قرار ترك مواطني البلدان الثالثة في شمال شرق سوريا إلى زعزعة استقرار المنطقة، ليس من خلال سحب الموارد التي يمكن استخدامها في جهود إعادة الإعمار فحسب، بل أيضاً من خلال تشتيت الانتباه عن محاربة خلايا تنظيم “داعش” التي ما زالت تعمل هناك. وإذا تَمكّنَ التنظيم من الاستيلاء على أراضٍ جديدة، فلن يؤدي وجود أعداد كبيرة من التابعين له في الجوار سوى إلى توسيع قاعدة التجنيد الخاصة به. وكما ذُكر سابقاً، يمكن أن يُحدِث التطبيع مع النظام السوري مجموعة من السيناريوهات والتهديدات المزعزعة للاستقرار تشمل هؤلاء المعتقلين في أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. وقد يدفع التطبيع أيضاً واشنطن إلى تغيير سياستها تدريجياً في سوريا وربما حتى إلى سحب قواتها.
من المؤكد أن الإعادة إلى الوطن لا تخلو من المخاطر. غير أن أعضاء التحالف سبق أن أثبتوا وجود طرق فعالة للتخفيف من هذه المخاطر، مثل مشاركة الممارسات الفضلى المتعلقة بجمع الأدلة، ومحاسبة الأطراف المسؤولة، وتكييف عمليات تقييم المخاطر مع احتياجات كل فرد ودولة، واعتماد استراتيجية واضحة للتواصل الثنائي بين المجتمع المدني والذين تتم إعادتهم إلى أوطانهم، وإنشاء نهج رعاية مراعية للصدمات لهؤلاء الأفراد. وسيتعين على كل بلد تطبيق هذه الممارسات الفضلى بشكل مختلف بناءً على قدراته الخاصة وأنظمته القانونية. وفي النهاية، لن تؤدي الإعادة إلى الوطن ولو كانت فعالة إلى حلّ جميع مشاكل المنطقة. ولكن ترك هؤلاء الأفراد في سوريا سيعرّض المجتمع الدولي لخطر أكبر بكثير.
ديفورا مارغولين
معهد واشنطن