تثير جولة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الخليجية، على السعودية وقطر والإمارات، (17– 19 يوليو/ تموز الماضي)، تساؤلاتٍ بشأن تأثيراتها على إقليم الشرق الأوسط، سيما إمكانية إعادة بناء النظام الإقليمي على أسس التكامل والتعاون الاقتصادي/ التجاري (بدلًا من الانخراط في سياسة صراعات المحاور الإقليمية)، بغية تعظيم مكاسب الطرفين، الخليجي والتركي، وتطوير قدراتهما على التعامل مع التحدّيات الإقليمية والدولية.
وفي إطار تحليل التقارب التركي الخليجي وتأثيراته على إقليم الشرق الأوسط وتفاعلاته وتحالفاته الدولية، ثمّة ثلاث ملاحظات؛ أولاها دلالة توقيت جولة الرئيس أردوغان، كونها تأتي بعد أقل من شهرين من فوزه بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية (28/5/2023)، ما يؤكّد أهمية العلاقات مع دول الخليج بالنسبة لأنقرة في الفترة المقبلة، سيما أولوية الملف الاقتصادي، وأهمية جذب الاستثمارات الخليجية إلى تركيا، التي تواجه تحدّيات اقتصادية ومالية مركّبة (ارتفاع معدلات التضخّم، وغلاء الأسعار، وانخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار الأميركي، وارتباك السياسات المالية التركية عمومًا، وتفاقم تداعيات الأزمة الأوكرانية دوليًّا وإقليميًّا).
كما تعكس الجولة “أسلوب المبادرة” في السياسة التركية، والدور المحوري للرئيس في صناعة القرارات الداخلية والخارجية، وتأثيره الواضح في سياسات تركيا وخياراتها وتوجّهاتها، وتعزيز شبكة تحالفاتها الإقليمية، خصوصًا الخليجية والعربية. كما كان لافتًا في هذه الجولة، محورية البعد الاقتصادي، على نحو ما تجلّى في مؤشرين؛ أحدهما حرص الرئيس أردوغان على ترويج الصناعة التركية، وإهدائه سيارات “توغ” TOGG الكهربائية التركية، لقادة السعودية وقطر والإمارات، والآخر توقيع عشرات الصفقات والاتفاقات والشراكات الاقتصادية والتجارية بما يزيد عن 60 مليار دولار، (منها 50.7 مليار دولار مع الإمارات).
جرى خلال زيارة أردوغان السعودية توقيع أكبر صفقة تصدير في مجال الدفاع والطيران في تركيا
وإلى ذلك، أضحى التعاون الأمني والدفاعي بين أنقرة والعواصم الخليجية يحتلّ مكانةً مهمة، على ضوء أربعة أمور: أولا، نجاح تركيا في تقديم نفسها شريكًا جديدًا، يُمكن لدول الخليج الاعتماد عليه في الأمن والدفاع، خصوصًا مع سعي هذه الدول إلى تنويع شراكاتها الدفاعية في ظل “التراجع النسبي” للانخراط الأميركي في الشرق الأوسط، ما يعني تجاوز مبيعات الأسلحة التركية للخليج الاعتبارات التجارية، لتحقيق هدف تعزيز مكانة أنقرة الإقليمية، بوصفها “قوة استقرار وتوازن إقليمي”. ثانيا، توطيد عناصر “الشراكة الاستراتيجية” بين الدوحة وأنقرة منذ عام 2015، (إبّان إنشاء اللجنة الاستراتيجية القطرية التركية العليا برئاسة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس أردوغان)؛ إذ شهدت هذه الشراكة توقيع أكثر من 95 اتفاقية ووثيقة، في المجالات التجارية والعسكرية والصحية والتعاون الدولي. ثالثا، وجود فرصة للتعاون التركي السعودي في قطاع الدفاع العسكري؛ إذ يمثّل نجاح تركيا في توطين الصناعات الدفاعية حافزًا للرياض التي تسعى إلى تنويع شراكاتها الأمنية ووارداتها الدفاعية، تمهيدًا لتوطين صناعاتها الدفاعية، في المدى البعيد، (كما تنص عليه رؤية 2030 السعودية)، ما قد يفسّر اهتمامها بالمسيّرات التركية، خصوصًا طائرات بيرقدار، التي تنتجها شركة “بايكار”؛ إذ جرى خلال زيارة أردوغان السعودية توقيع أكبر صفقة تصدير في مجال الدفاع والطيران في تركيا، حسبما غرّد مدير الشركة، خلوق بيرقدار، في حسابه على “تويتر”. رابعا، تصاعد منسوب “الثقة السياسية” في العلاقات التركية السعودية، بعد تبادل الزيارات على أعلى المستويات، في العامين الماضيين، وتضاؤل تأثير ملفات الخلافات الثنائية (اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وتداعيات الاصطفافات الإقليمية بعد الثورات العربية والثورات المضادّة، في مصر وسورية وليبيا).
تتعلق الملاحظة الثانية بدوافع الرياض لتوطيد علاقاتها مع أنقرة، وإعادة توجيه السياسة الخارجية السعودية نحو مساراتٍ أكثر تنوّعًا وانفتاحًا؛ إذ تسعى الرياض جاهدة إلى استثمار المتغيّرات الدولية والإقليمية، في تعزيز شراكاتها الدولية والإقليمية وتنويعها، وتنشيط حراكها الدبلوماسي في عدة ملفات إقليمية ودولية، على نحو يجعلها مركزًا دبلوماسيًّا إقليميًّا، ويسمح لها بإعادة بناء نفوذها في المنطقة، ما يوفّر بيئة خارجية مؤاتية، تدعم السعودية في تسريع إنجاز خططها الاقتصادية والاستثمارية، كما تجسدها رؤية 2030.
يكشف تحليل مجمل النشاط الدبلوماسي السعودي منذ انعقاد القمّة العربية في جدّة أن السعودية ربما تحاول جمع أوراق قوة لتحسين قدراتها التساومية
وفي هذا السياق، تبرز أربعة متغيرات: أولا، نشاط الرياض في تفعيل مجلس التعاون الخليجي، على نحو ما عكسه انعقاد القمة التشاورية الخليجية 18 في جدّة (19/7/2023)، ثم انعقاد القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى (أوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان)، لتعزيز العلاقات وتأسيس شراكة قوية بين الطرفين. ثانيا، تعزيز العلاقات السعودية مع كل من فرنسا واليابان وأذربيجان؛ إذ زار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فرنسا، في يونيو/ حزيران الماضي، طلبًا لدعم باريس ملفّ استضافة السعودية معرض إكسبو 2030. وكذا تعزيز العلاقات السعودية اليابانية، إثر زيارة رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، السعودية (16/7/2023)، وتوقيعه 26 اتفاقية ومذكرة تفاهم مشتركة، ثم زيارة وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، اليابان، لتعزيز التعاون المشترك في المجال العسكري والدفاعي. ثالثا، تنشيط العلاقات الخليجية العراقية، عبر زيارة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، جاسم محمد البديوي، العراق، لتوجيه دعوة له للمشاركة في “المنتدى الاقتصادي لدول الخليج العربية”، الذي تستضيفه الشارقة، فضلا عن بحث تطوير العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، خصوصًا الربط الكهربائي، في ظل تأكيد رئيس الوزراء العراقي، محمد شيّاع السوداني، حرص بلاده على “بناء شراكات جادّة مع الدول الشقيقة والصديقة وشعوبها في المنطقة”. رابعا، الإعلان عن دعم اقتصادي سعودي لليمن، بقيمة 1,2 مليار دولار لمعالجة عجز موازنة الحكومة اليمنية، وصرف المرتبات، وضمان الأمن الغذائي، وتثبيت استقرار الريال اليمني.
تتعلق الملاحظة الثالثة بالسياقين الدولي والإقليمي لهذا التقارب التركي السعودي؛ إذ يكشف تحليل مجمل النشاط الدبلوماسي السعودي منذ انعقاد القمة العربية في جدّة (19/5/2023)، سواء في محاولات الرياض الوساطة في الأزمة الأوكرانية، أم المسار السعودي الأميركي لتهدئة الصراع العسكري في السودان (عبر محادثات جدّة)، أن السعودية ربما تحاول جمع أوراق قوة لتحسين قدراتها التساومية، ربما تمهيدًا لإبرام “صفقة” مع الإدارة الأميركية حول ثلاثة موضوعات؛ أولها تعهّد رسمي بأمن السعودية في حال تعرّضها للتهديد، بما في ذلك الالتزام بتلبية طلباتها من كل أنواع المعدّات العسكرية المتقدّمة التي ترغب في شرائها. والثاني يتعلق بالمشاركة الأميركية في البرنامج النووي السلمي السعودي، (بما في ذلك امتلاك تكنولوجيا دورة الوقود النووي الكاملة من دون قيود). وثالثها ربط السعودية إعلان موافقتها على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل بضرورة تغيير موقفها من قضية فلسطين؛ إذ تتمسك الرياض بمبادرة السلام العربية التي تشترط إتمام الانسحاب الإسرائيلي، من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، بما فيها هضبة الجولان السورية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967.
إدارة بايدن تركز على إعادة جذب السعودية بعيدًا عن الاندفاع نحو توثيق علاقاتها بالصين، وتقليص أو إنهاء التنسيق السعودي الروسي في موضوع النفط
وعلى الرغم من رغبة الدبلوماسية الأميركية في تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية، فإن ثمّة عقبتين تعرقلان ذلك؛ إحداهما رفض تل أبيب الصارم المبادرة العربية للسلام، خصوصًا بعد تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (26/6/2023) إنه “يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم”. والأخرى أن كلًا من السعودية وإسرائيل تحاولان توظيف التنافس الأميركي الصيني، للحصول على تنازلات من واشنطن تحقق أهدافهما وتخدم سياستيهما الإقليميتيْن، ما يعني إجمالًا أن إدارة بايدن تركز على إعادة جذب السعودية بعيدًا عن الاندفاع نحو توثيق علاقاتها بالصين، وتقليص أو إنهاء التنسيق السعودي الروسي في موضوع النفط، في ظل سعي الرياض إلى التحوّل قوة إقليمية ذات شأن، ومخاطَب رئيس للقوى الكبرى في قضايا إقليم الشرق الأوسط كافة.
يبقى القول إن التقارب التركي الخليجي، يمثّل تطورًا إقليميًّا إيجابيًّا، بيد أن الوصول إلى “هوية إقليمية” تقوم على المصالح المشتركة والاعتماد الأمني المتبادل في إقليم الشرق الأوسط، يحتاج جهدًا ووقتًا، خصوصًا على صعيد التعامل مع ثلاثة تحديات رئيسة؛ أولها إدماج القوى الإقليمية الأخرى الرئيسة في الإقليم، سيما مصر وإيران. وثانيها تطوير رؤية وسياسات “توافق إقليمي” على عزل إسرائيل والضغط عليها، عبر وقف كل مستويات التطبيع العربي والإقليمي معها، ودعم الجهود المدنية العالمية لمقاطعتها ونبذها، بالتوازي مع بلورة استراتيجية إقليمية فعّالة لدعم مقاومة الشعب الفلسطيني وصموده على أرضه في ظل تصاعد عدوانية قوات الاحتلال الإسرائيلي، ودعمها المستوطنين وحماية ممارساتهم العنصرية. وثالثها تقليص تأثير البعد الدولي في توظيف صراعات الشرق الأوسط، وتعزيز “الاستقلالية الإقليمية” في إيجاد حلول لهذه الصراعات، عبر تعاون عربي تركي إيراني.
العربي الجديد