لعبت مقابلة بشار الأسد على قناة سكاي نيوز عربية، بمحتواها الكارثي، مضافاً إليها مضاعفة رواتب الموظفين (!) دوراً استفزازياً جعل عدداً من السوريين يتجاوزون، على وسائل التواصل الاجتماعي، كل خطوط النظام الحمراء فيستهدفون مباشرةً رأس النظام وزوجته، ويطالبونه بالتنحي عن السلطة. هذا ما قاله ماجد دواي في بث عبر شبكة يوتيوب، مما قال فيه مخاطباً الأسد: «لم تعد لديك حاضنة شعبية! إن من حموك في ثورة 2011 هم بالذات من سيقومون باقتلاعك!» داعياً إياه إلى التنحي عن السلطة تجنباً لحمام دم جديد.
أما أيمن فارس فقد تحدى رأس النظام أن تتمكن أجهزته من إلقاء القبض عليه حياً، ويُعتقد أنه متوارٍ عن الأنظار في العاصمة دمشق. في حين قامت تلك الأجهزة باعتقال أحمد إبراهيم إسماعيل وفقاً لما قالته ابنته في بث يوتيوبي، داعيةً للتضامن مع أبيها وتحويل اعتقاله إلى قضية رأي عام. وهو الذي عرف أيضاً ببث عدد من مقاطع يوتيوب انتقد فيها السلطة بجرأة.
أما في المنطقة الجنوبية، محافظتي درعا والسويداء، فقد استأنف الناس خروجهم إلى الشارع، بعد سنوات من الركود، وتنظيم مظاهرات تنادي بإسقاط النظام، وبالحرية والكرامة، أي باستعادة شعارات ثورة 2011 نفسها وأجوائها من تمزيق صور الدكتاتور ومحاصرة مقرات حزب البعث، ورفع علم الثورة (علم استقلال سوريا) فوق الجامع العمري في درعا ـ مهد الثورة السورية، إضافة إلى الإضراب العام الواسع في محافظة السويداء.
تأتي كل هذه التحركات المناهضة للنظام في ظروف بالغة القسوة يعاني منها السوريون في مناطق سيطرته، أبرز معالمها غياب الخدمات الأساسية وهبوط متفاقم لقيمة العملة المحلية ومعادلها البديهي المتمثل في ارتفاع جنوني في أسعار أساسيات الحياة، مع شح في الموارد لدى عموم السكان، وتحول الرواتب التي تقدمها الدولة لموظفيها في الجهاز الإداري والعاملين في القطاع العام إلى مجرد نكتة سمجة حتى بعد «مضاعفتها». قرار المضاعفة هذا بدلاً من أن يخفف من شكوى السوريين دفعها إلى مستوى أعلى وأكثر جرأة في تحدي النظام ورأسه بالذات. وربما الأهم من هذه الشروط الحياتية القاسية هو فقدان أي أفق وأي أمل بتحسن هذه الشروط في مستقبل قريب أو بعيد ما دام نظام الأسد المسؤول عنها قابعاً فوق صدور السوريين، ويمتنع عن ملاقاة أي محاولات لمساعدته على تجاوز أزمته، كما رأينا في رفضه العملي للتجاوب مع المبادرة العربية، ومكابرته على أن سياساته صحيحة، سواء في رفضه لأي حل سياسي أو في التنصل من مسؤولياته بوصفه الممسك بالدولة والمدعي تمثيلها.
كأن النظام ليس مسؤولاً عن حماية الأراضي السورية من الاعتداءات الخارجية! تماماً كعدم مسؤوليته عن أحوال المحكومين الكارثية، ولا عن ضبط تجارة المخدرات، ولا عن ضعف الدولة! أما مسؤوليته الوحيدة فهي في التمسك بالسلطة وعدم «الهروب»
تصاعد مظاهر الاحتجاج والتحدي يقابله النظام، إلى الآن، بالصمت، في حين جاء الرد الأبرز على الصفحة الأولى من التمرد عبر وسائل التواصل (على لمى عباس) من تاجر المخدرات المعروف وسيم الأسد، وكان رده معبراً بدقة عن «فلسفة الحكم» لدى نظام الأسد. قال الرجل المعروف بصداقته لتاجر المخدرات اللبناني نوح زعيتر، ما معناه: بدلاً من التطاول على النظام ازرعوا أرضكم وتدبروا أموركم واذهبوا لتحرير منطقة التنف من الاحتلال الأمريكي!
نعم، لقد عبر الرجل تماماً عن الطريقة التي يفكر بها قريبه القابع في قصر المهاجرين الذي يتعامل مع القوى الدولية والإقليمية، ما عدا إيران وروسيا، بالطريقة نفسها: اقضوا على الإرهاب أو توقفوا عن دعم المجموعات الإرهابية… أعيدوا سيطرتي على الأراضي السورية التي فقدتُ السيطرة عليها… أعطوني أموالاً من أجل إعادة إعمار ما دمرته طائراتي وبراميلي المتفجرة… أعيدوا تقوية دولتي الضعيفة، فبسبب هذا الضعف ازدهر انتاج المخدرات وتصديرها، وسبب الضعف هو الإرهاب الذي أنتجتموه وصدرتموه لعندي… في حين أن بعض مقاطع الفيديو التي نشرها ناشطون متمردون سبقت الإشارة إليهم كشفت عن أن النظام دفن المساعدات التي قدمتها له بعض الدول بمناسبة كارثة زلزال شباط تحت التراب، وباع قسماً منها في السوق السوداء. فلماذا تقدم له أي دولة أي شيء وهي تعرف أن أي مساعدات من أجل تعاف مبكر أو إعادة إعمار ستذهب إلى الحسابات المصرفية في الخارج لرأس النظام والحلقة الضيقة المحيطة به؟
أما للسوريين المكتوين بشروط الحياة الأقرب إلى الموت فلسان حاله يقول لهم: عليكم أن تصمدوا وتتحملوا لكيلا أنصاع لطلبات عربية أو قرارات أممية تستهدف «محور الممانعة»!
غير أن موجة التمرد الأخيرة، فيما اعتبر «بيئته الحاضنة» بصورة خاصة، كشفت عن أن الناس لم تعد قابلة للخداع بسفسطاته عن الممانعة والإرهاب أو حمايته المزعومة للأقليات من غول الأكثرية الذي يريد التهامهم (!). مظاهرة في ضاحية جرمانا هتفت برفضها «للشعر» وطالبت بالطعام! على ما يثيره هذا الهتاف من مرارة في النفس، فهو دقيق في تعبيره عن رفض ترهات المقاومة والممانعة ومواجهة الإرهاب وما إلى ذلك من كلام فارغ دأب النظام على إطلاقه للتنصل من مسؤولياته الاجتماعية والوطنية: «تمرجل على إسرائيل التي تقصف الأراضي السورية كل يوم، بدلاً من التمرجل علينا!» قال الناشط ماجد الدواي.
كانت مقابلة الأسد على سكاي نيوز «غنية» حقاً بكل ما ينزع أي مبرر لبقائه في السلطة في نظر بيئته الحاضنة بالذات: فقد قال إن العدوان الإسرائيلي سيتواصل طالما أن النظام يحقق انتصارات (!) على الإرهاب! وكأنه ليس مسؤولاً عن حماية الأراضي السورية من الاعتداءات الخارجية! تماماً كعدم مسؤوليته عن أحوال المحكومين الكارثية، ولا عن ضبط تجارة المخدرات، ولا عن ضعف الدولة! فكل هذه الأمور هي من مسؤوليات الآخرين، أما مسؤوليته الوحيدة فهي في التمسك بالسلطة وعدم «الهروب» كما قال!
بات النظام عارياً تماماً، وبدأ أفراد يخاطرون بحياتهم ليقولوا له إنه عارٍ وعارُ على سوريا. ولم يعد الأردن يتحمل طائراته المسيرة التي انتقلت من تصدير المخدرات إلى تصدير المتفجرات، وأوروبا تخشى أن تتوجه صادرات الأسد من الكبتاغون إليها إذا أغلقت في وجهه أبواب أسواق الأردن ودول الخليج! القمع الذي نجح، مع عوامل أخرى، في وأد ثورة 2011، قد لا يستطيع تكرار ذلك النجاح القاتل.
القدس العربي