تتواتر المؤشرات على تخلخل الحكم الأسدي بأثر انتشار الفقر وتدهور الخدمات وعدم اقتناع قطاعات متسعة من السوريين في مناطق سيطرته بما يساق من ذرائع لهذا البؤس المنتشر. وأكثر من أي وقت سبق تُسمع أصوات تتكلم باحتقار على بشار الأسد بالذات، وبخاصة ضمن البيئة العلوية.
هذا شيء غير مسبوق، بالنظر إلى أن النهج المعتمد حتى وقت قريب هو لوم الحكومة، الوزراء ورئيسهم والمحافظين والإدارات، وهو ما كان النظام بالذات يشجع عليه، رافعاً المتصرف الأسدي فوق النقد (وفوق البلد وكل شيء فيه). مؤخراً تداول المتابعون فيديوهين لشخصين، يظهران بصورتيهما واسميهما، يهينان بشار الأسد وزوجته ومخابراته ومخبريه. هذه علائم انفضاض للقاعدة الاجتماعية المباشرة للنظام لا تزال فردية، لكن يبدو أنها تعبر عن مزاج أوسع. المحرك المباشر للأصوات المحتجة معيشي واقتصادي، لكن الطعن في بشار الأسد يقيم الربط الذي لطالما كان غائباً بين الأحوال الاقتصادية وبين نظام الحكم. والأفق السياسي الذي ينفتح عليه هذا الربط هو أن معالجة المشكلات المعيشية والخدمية غير ممكن في ظل النظام القائم، فلا بد من التغيير السياسي.
هذا قاله إضراب السويداء بدءاً من يوم 20 آب بوضوح. هنا خرج الألوف في بؤر احتجاج عديدة في المحافظة، تذكر ببؤر التظاهر في جُمَع الثورة بين آذار 2011 وتموز 2012. الفارق المهم في السويداء هو أننا حيال احتجاج اجتماعي واسع النطاق يبدو أنه يحظى بدعم مشيخة العقل (الشيخ حكمت الهجري) في الجماعة الدرزية التي تشكل أكثرية كبيرة من سكان المحافظة. يهتف المحتجون: سوريا لينا، وما هي لبيت الأسد! وعاشت سوريا، ويسقط بشار الأسد! وسوريا حرة حرة، وبشار يطلع برا! والشعب يريد إسقاط النظام! وكلها من هتافات الثورة الباكرة كذلك. المحرك المباشر معيشي وخدمي كذلك، لكن بتوجه سياسي واضح ضد النظام (وضد المحتلين الإيرانيين والروس والأمريكيين الذين دعت إحدى اللافتات إلى خروجهم من سوريا). جرى طرد أمين عام حزب البعث في المحافظة، وأُسمع كلاماً مهيناً له ولحزبه ولرئيسه. وفي المتاح من الفيديوهات عن احتجاجات السويداء ظهر الناس بوجوههم، خلافاً لما كان الحال في فترات الاحتجاجات السلمية في الثورة، حين كان يجري تصور الناس من الخلف في الغالب تجنباً للعواقب الأمنية. هناك انكسار متسع لهيبة النظام، وهي مزيج من الخوف من أجهزته الأمنية القاتلة ومن حرمة متعوب عليها للحاكم الأسدي، حتى لتقارب التأليه. هذان الركنان يتحطمان معاً أكثر وأكثر.
وقبل حين في هذا الشهر أعلن عن ظهر تجمع أعلن عن نفسه باسم حركة 10 آب، تقدم بمطالب معيشية تتصل بالرواتب والكهرباء وإعادة الدعم للخبز والوقود، وبإصدار جوازات للمواطنين الراغبين (جواز السفر لم يكن يوما حقاً تلقائيا للسوريين، بل أداة انضباطية بيد النظام) لكن منها إغلاق مصانع الكبتاغون (تشرف عليها الفرقة الرابعة وقائدها ماهر الأسد) إطلاق المعتقلين السياسيين، وقف بيع أملاك الدولة للأجانب (وهذا موجه بوضوح ضد الاستعمار الإيراني) وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 الخاص بالانتقال السياسي، وتحديد مدة الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية. في الروحية العامة، البيان يشارك احتجاجات السويداء والأصوات المعارضة في الساحل في ربط المعيشي بالسياسي، وإن بحذر أكبر.
المحرك المباشر للأصوات المحتجة معيشي واقتصادي، لكن الطعن في بشار الأسد يقيم الربط الذي لطالما كان غائباً بين الأحوال الاقتصادية وبين نظام الحكم
إلا أنه تُسمع أصوات فاترة حيال ظواهر الاحتجاج الجديدة أو حتى مشككة بها من بين جمهور الثورة السورية الأقدم، أصوات يغلب أن تكون سنية دينياً، ومهجرة أو لاجئة خارج البلد، أو في مناطق لا تزال تتعرض لهجمات النظام وحماته الروس إلى اليوم. أشد التشكك يأتي من الأوساط الأشد طائفية بطبيعة الحال، لكن بعضه يبدو أقرب إلى طلب اعتراف بالأقدمية في الاعتراض على النظام أو دفاع عن احتكار الجذرية ضد النظام، يحركه هو ذاته حس قوي بالمظلومية، ينزع أصحابه إلى انكفاء مترفع على أنفسهم، لا يؤنسهم غير الشعور بأنهم وحدهم على حق. هذا مفهوم نفسياً بعض الشيء، لكنه خاطئ سياسيا إلى أقصى حد، ومستحق للاعتراض عليه ونقده في كل حال.
يحدث أن يعبر التشكك عنه نفسه باستعلاء يميز بين من خرجوا ضد النظام من أجل الكرامة والحرية، ومن يخرجون من أجل الخبز أو مطالب معيشية، مع رفع الأولين فوق الآخرين. لكن إذا كان صحيحاً أن المحتوى السياسي الحقوقي لفكرة الكرامة على نحو ما عبرت عنها الثورة السورية في البدايات كان أظهر من المعيشي، إلا أن خارطة الاحتجاجات السورية الباكرة نفسها تدل على انتشارها في مناطق كانت تتدهور اقتصادياً وخدمياً، أطراف المدن الكبيرة والمدن الصغيرة والبلدات، وضمن أوساط اجتماعية كانت تتدهور مقدراتها وتعاني من عسف النظام الإداري والخدمي، وليس عسفه الأمني وحده. إلى ذلك، ليس صحيحاً أن احتجاجات اليوم، الجمعية في السويداء والفردية إلى اليوم في الأوساط العلوية، معيشية حصراً، إذ يجمعها بوضوح تام التركيز على النظام مجسداً ببشار الأسد، مما لا يزال يقتضي شجاعة كبيرة، بالنظر إلى أنه لا يبدو أن هياكل النظام الأمنية تشكو من تراجع قدرتها على الاعتقال والتعذيب والقتل، ومع ما هو معلوم من أن إهانة بشار الأسد (وقبله أبيه) هي الكفر الذي ما بعده كفر في دولة الأسديين. بالعكس، قد تكون ميزة الموجة الاحتجاجية الجديدة أنها تتجاوز اختزالين اثنين: ذاك الذي يقول إن الكرامة لا علاقة لها بالمعيشة، وأن إسقاط بشار الأسد وحكم العائلة والأجهزة لا يستمد قيمته من شيء آخر، خصوصاً ليس من مطلب مادية؛ واختزال ثان هو الكلام المعيشي الذي لا يضع يده على الحكم الأسدي والعائلة الأسدية كمنبع لمشكلات سوريا الاقتصادية، وليس مشكلاتها السياسية والحقوقية فقط.
اليوم يزداد حضور هذا الربط في الوعي العام، وهذا رغم غياب أحزاب سياسية هي ما ينتظر منها أن تقوم بربط حياة السكان ومطالبهم الحياتية بالأوضاع السياسية التي يعيشون في ظلها، وربما تربط كذلك بين موجات وأجيال الاحتجاج الاجتماعي في البلد، فترعى ذاكرة وطنية غير جهوية وغير طائفية، وكذلك تبصر بالمخاطر المحتملة، بناء على دروس تجاربنا السابقة.
لا يحتاج المرء إلى تنبه خاص لتبين هذه المخاطر. من أولها بطش النظام المباشر، استهداف الأصوات الشجاعة في الساحل بالاعتقال والتغييب، وربما القتل، وحصار السويداء مع اتهام سكانها بالعمالة والضلوع في مخططات أجنبية. وثانيها سياسة شارع ضد شارع، أو ببساطة سياسة الحرب الأهلية، والنظام متمرس في هذا الشأن. يؤلب دروزاً من السويداء منتفعين منه وموالين له ضد مجتمع المدينة ومناطقها المضربة والمحتجة، ويستهدف الأصوات المتمردة في الساحل بأناس من ذوي قرباهم من عملاء النظام (سبق لشيء من ذلك أن حصل في بداية الثورة، بل منذ أيام «ربيع دمشق» ضد معارضين علويين من قبل جيرانهم أو شبيحة مستورين). والأخطر من كل ذلك بخصوص السويداء هو استنفار داعش التي صارت اسماً لتكنولوجيا قتل يمكن استخدامها عند اللزوم ضد أي أعداء متصورين (وهذا بعد النجاح المجرب لهذه التكنولوجيا الإبادية في سوريا والعراق). أو ربما تدبير عمليات إرهابية في الساحل، يراد منها دفع الناس للاحتماء بالنظام.
مجازر البراميل والكيماوي ليست منهجاً محتملاً لمواجهة الموجة الجديدة في السويداء والساحل. وقطاع من جمهور ثورة 2011 ممن صلبتهم المعاناة ويتملكهم شعور بالخذلان محقون في أن بيئاتهم تعرضت لاستهداف تمييزي إبادي. يثبتهم على ذلك استهداف بلدات درعا الثائرة في هذه الأيام الأخيرة بالذات بالرصاص، وقصف بلدة نوى بالمدفعية. لكنهم غير محقين في الاستخفاف بما يجري أو التقليل من شأنه. النظام وحده ينتفع من ذلك. بالعكس، تستحق هذه الأنشطة التشجيع والمساعدة بالمستطاع، ومن المستطاع دوماً التضامن معها والتعبير عن الاحترام للمشاركين فيها.
القدس العربي