على رغم كل الوعود التي أطلقها مرشد النظام الإيراني ودعوة جميع القوى السياسية للمشاركة والاقتراع في الانتخابات البرلمانية المقبلة المفترض إجراؤها مطلع مارس (آذار) 2024، فإن حالة عدم الثقة والتشكيك ما زالت هي الحاكمة والمسيطرة على مشهد العلاقة بين القوى الإصلاحية والنظام وأجهزته، بخاصة أن هذه القوى لم تحصل على ضمانات مؤكدة وموثقة من المرشد أو المنظومة بعدم استخدام مقصلة لجنة دراسة أهلية المرشحين في مجلس صيانة الدستور لإقصاء وإخراج مرشحي هذه القوى من السباق الانتخابي.
وقد شكل عمل ودور مجلس صيانة الدستور في تحديد وتأييد صلاحية المرشحين العقدة الرئيسة والمفتاح الأساس لموقف جميع أطياف التيار والأحزاب الإصلاحية من العملية الانتخابية، وشرطاً للمشاركة فيها أو العزوف عنها، إلا أن تمسك النظام وأجهزته ومنظومته بهذه الورقة، كشفت وتكشف وتؤكد أهمية هذا المجلس داخل هرمية السلطة ودوائر القرار لدى المنظومة لما يشكل من خط دفاع متقدم وأساس له في مواجهة خصومه ومنافسيه أو مصادر الخطر والقلق، ولعلّ الدور الذي لعبه هذا المجلس ولجنة دراسة أهلية المرشحين بإقصاء الرئيس الأسبق وأحد أعمدة النظام والثورة الشيخ هاشمي رفسنجاني عن السباق الرئاسي يكشف حجم وأهمية ما يقوم به في معركة النظام مع خصومه أو معارضيه السياسيين، وأنه بات يشكل السيف الذي يقطع به الطريق على وصولهم إلى مواقع القرار، سواء كانوا من المحافظين، محمود أحمدي نجاد وفريقه، أو الإصلاحيين، والشواهد كثيرة.
أمام هذه الحقائق والتجارب المتراكمة على مدى العقود الماضية من عمر النظام، والصراع المفتوح بين القوى والأحزاب والأصوات المعارضة ومؤسسة النظام ودولته العميقة، ينقسم الإصلاحيون إلى أجنحة عدة أو توجهات في ما يتعلق بقرار المشاركة في الانتخابات البرلمانية المرتقبة من عدمها.
فإضافة إلى الموقف الذي عبّر عنه الرئيس الأسبق محمد خاتمي بما يمثله من موقع داخل التيار الإصلاحي والذي تمّ التطرق له في القسم الأول، فإن الانقسام داخل الإصلاحيين لا يقتصر على المؤيدين لموقف خاتمي والمعارضين له، لأن الموقف من الانتخابات قاد إلى تعددية في الآراء تكاد تصل إلى حدود الانقسام، بحيث تجعل من النظام وأجهزته أقرب إلى حالة الطمأنينة من عدم وجود منافسين حقيقيين قد يشكل مصادر خطر على عودته للسيطرة على كل المشهد في السلطة التشريعية المقبلة والإبقاء عليها تحت سيطرته التامة.
والتباين في المواقف داخل القوى الإصلاحية من المشاركة في الانتخابات في ظل الشروط التي يتمسك بها النظام ومؤسساته وأجهزته، كشف عن توجهات متعددة داخلها، قد تصل حدّ التناقض، ومن المؤكد أن الأطراف التي ترى مصلحة في المشاركة قد عمدت إلى تسجيل أسماء مرشحيها إلكترونياً على منصة الترشيحات التي فتحتها وزارة الداخلية، وأن لديها حصة في الكمّ الكبير من الأسماء المسجلة والذي لامس رقم 49 ألفاً، ويمكن القول إن شريحة من هؤلاء الإصلاحيين قررت الدخول في السباق الانتخابي ترشيحاً مدفوعة بنظرة مصلحة وواقعية واعتقادها بصعوبة تحقيق خرق في جدار النظام الصلب الذي لن يتسامح في إيصال مرشحيه إلى البرلمان، إلا أن ما يحكم قرارها هو الحفاظ على استمراريتها في البقاء داخل المنظومة الاقتصادية، اعتقاداً منها أن هذه الخطوة قد تشكل رسالة إيجابية للنظام في تعامله معها مستقبلاً وتساعد في الحفاظ على هذه المصالح.
في إزاء هذه الشريحة، فإن أحزاباً كانت في السابق تشكل رافعة للدولة والنظام، والمقصود هنا بالدرجة الأولى حزب “كوادر البناء” الذي تأسس برعاية من الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني وخلال رئاسته الجمهورية، لا يرى مصلحة في الذهاب إلى خيار عدم المشاركة، ويعتقد أن المشاركة تساعد في البقاء داخل المعادلة السياسية، لأنها تسهم في إفشال الجهود التي تبذلها الجماعات المتشددة والراديكالية في التيار المحافظ للتخلص من الإرث السياسي والإداري لرفسنجاني ومن ضمنها حزب “الكوادر”، وإلى جانب هذا الحزب وقياداته، هناك أحزاب إصلاحية أخرى تعتقد أيضاً بضرورة المشاركة واستغلال الفرصة التي يمكن أن توفرها دعوة المرشد لإجراء انتخابات عادلة ومتنوعة بمشاركة الجميع وإمكانية تحقيق خرق في النتائج قد تسمح بإيصال عدد من النواب إلى الندوة البرلمانية يكون بمقدورهم تشكيل تكتل مستقل عن جماعة التيار المحافظ والنظام ويمثل صوت المعارضة.
المعارضون أيّ تسوية مع النظام، أو أي نوع من المشاركة، فانهم ينقسمون ما بين جماعة تقول بعدم جدوى المشاركة ترشحاً، من دون الدخول في محذور إعلان تحريمها حتى لا تدخل في معركة مبكرة مع أجهزة النظام، أو حتى لا تعطيه الذريعة والمسوّغ لقمعها وإقصائها ومنعها من ممارسة أي نشاط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، بخاصة أنها حددت الأسباب التي دفعتها لهذا الموقف، وعلى رأسها ممارسات مجلس صيانة الدستور ومقصلة الإقصاء التي يمارسها بحق المرشحين الذين لا يتفقون في موقفهم مع النظام أو يعارضون هيمنته على مفاصل الدولة والمؤسسات على حساب الآخرين، فضلاً عن ضرورة محاسبة الفاسدين الذين أدخلوا البلاد في أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، وضرورة توفير الأرضية الصلبة لحرية الرأي والتعبير والعمل السياسي والتعددية الحزبية، لكنها، في المقابل، تركت هذه الجماعة الخيار لمؤيديها وجمهورها حرية القرار بالمشاركة في الاقتراع من عدمها.
أما جماعة المقاطعة، فيمثلون الجناح الراديكالي بين الإصلاحيين، وهم الذين رفعوا شعار “ضرورة إعادة النظر في بنية النظام” وأيضاً الاستفتاء على موقع ولاية الفقيه وصلاحيات ولي الفقيه، وذهب قسم منهم بقيادة زعيم “الحركة الخضراء” مير حسين موسوي إلى الدعوة لإعادة كتابة دستور جديد لا مكان فيه لولاية الفقيه.
اندبندت عربي