إياد العناز
اكتسبت منطقة جنوب القوقاز أهمية سياسية عسكرية وإعلامية خلال الأيام الماضية واعادت للأذهان حالة القتال والمواجهة بين جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا بعد أن شنت القوات الأذرية في 19 أيلول 2023 حملة عسكرية ضد أقليم ( ناغورني قره باغ) بدعوى مكافحة الأرهاب ورغم حالة الخوف والاستباق العالمي والإقليمي لاحتواء الموضوع إلا أن العاصمة (باكو) أعلنت سيطرتها الكاملة على الإقليم بعد يوم من زحف قواتها تجاه المناطق المحاذية والداخلية له مما أثار الكثير من التساؤلات والتحليلات وأوجه العديد من الارهاصات بشأن الانعكاسات الميدانية المحتملة حول التوازنات الجيو سياسية في المنطقة وأثرها على حالة الاستقرار والأمن الإقليمي.
بهذه العملية تكون أذربيجان قد أنهت صراعاً مستمراً مع أرمينيا دام زهاء ثلاثون عاماً حول حقها في السيادة على أقليم قره باغ والذي أتخذ ابعاداً أقليمية وتحالفات سياسية ومواقف دولية في مساندة الدولتين تمثل بالدعم التركي والمساندة العسكرية لحكومة أذربيجان في حين كان النظام الإيراني داعم رئيسي وحليف استراتيجي لأرمينيا و حافظت روسيا على فسحة من العلاقات بين الدولتين مراعاة لمصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في جنوب القوقاز ولابقاء حالة التأثير الذي تلعبه في منطقة حيوية في آسيا الوسطى وحدودها المتاخمة لدول المنطقة، ولهذا فقد سعت منذ بداية الأحداث بتشكيل قوة لحفظ السلام من قواتها العسكرية لضبط الحالة ومنع أي اشتباك يحصل بين الطرفين بعد المواجهة الكبيرة التي اندلعت عام 2020 وانتهت بخسارة الجيش الارميني المواجهة العسكرية مع أذربيجان، وتم عقد هدنة بين الطرفين نصت على قيام القوات الروسية بمراقبة ممر ( لاتشين) والذي يسمح للأرمن بالتنقل بين إقليم قره باغ الذي يتمتع بحكم ذاتي ويقع بشكل كامل داخل أذربيجان إلى أرمينيا.
تعود حالة الاقتتال بين الدولتين إلى عام 1988 والتي استمرت لستة سنوات وخلفت (30) ثلاثون ألف قتيل وأنتهت دون أن تحقق غاية الطرفين بسبب الأحداث التي رافقت سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكيكه إلى (15) دولة وعدم اهتمام الأطراف الدولية بنتائج الحرب ولكنها ساهمت في إيقافها، وتجدد القتال مرة ثانية عام 2020 وانتهى بهزيمة قاسية لأرمينيا وسيطرة شبه مطلقة لاذربيجان على مناطق واسعة باقليم قره باغ، وحملت المعارضة الأمينية رئيس الوزراء (نيكول باشنينيان) الخسارة العسكرية وتدهور الأوضاع في المنطقة ورغم ذلك فقد عاد (باشنينيان) وفاز بالانتخابات البرلمانية واقر في ايار 2023 باعتراف بلاده بناغورني قره باغ جزءاً من الأراضي الاذربيجانية، وسبق الاعتراف ان شددت (باكو) الحظر الذي فرضته على ممر (لاتشين) منذ شهر كانون الأول 2022 والذي أدى إلى نقص في المواد الغذائية والسلع الأساسية لأهالي إقليم قره باغ، ولم تتدخل قوات حفظ السلام الروسية لفك الحصار اومنع الحكومة الاذربيجانية من إجراءاتها، وتصاعدت الأحداث بقيام الانفصاليين الأرمن بعدد من العمليات التعرضية والاحتجاجات الشعبية مما حدى بالقوات الأذرية بالتدخل واستهداف عاصمة الإقليم ( سبتبانكيرت) وبعض المناطق المحيطة بها، قتل فيها (200) شخص واصيب (400) آخرين، ورغم جميع الوساطات الدولية من الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لمنع اندلاع مواجهات أخرى إلا أن الحكومة الأذرية طالبت بنزع سلاح التشكيلات العسكرية للقوات الارمينية وضمان انسحابهم من أقليم قره باغ، وافقت أرمينيا على شروط أذربيجان بعيداً عن أمال واحلام الأرمن في اقامة حكم ذاتي انفصالي لهم في الإقليم، وادى الوضع الى نزوج الأف من العوائل الارمينية خوفاً من حدوث إبادة جماعية لهم بعد اعلان أذربيجان تمسكها بالأرض واعتبارهم من رعاياها.
أحدثت العملية العسكرية عدة مواقف سياسية ومفارقات دولية وإقليمية، كان أهمها ما جاء على لسان رئيس الوزراء ( نيكول باشينبيان) في 24 أيلول 2023 بإعادة النظر في تحالفاته الاستراتيجية مع روسيا بعد سيطرة أذربيجان على إقليم قره باغ معيداً بذلك خلط الأوراق في منطقة مهمة تقع ضمن النفوذ الروسي في القوقاز، مشيراً إلى أن أنظمة الأمن الخارجي التي تنتمي إليها أرمينيا ( أثبتت انها غير مجدية لحماية أمنها ومصالحها) وهي إشارة إلى منظمة الأمن الجماعي التي ترأسها روسيا وتأسست عام 2002 وتضم ( روسيا وأرمينيا وطاجيكستان وقيزغستان وبيلاروسيا وكازخستان) والتي كانت حكومة (ريفان) الارمينية تتوقع مواقف إيجابية ودعم ومساند لها في صراعها مع أذربيجان، ورغم وجود قاعدة عسكرية روسية في مدينة ( غيومري) تضم الأف من الجنود الروس إلا أن موسكو لم تبدي اي مواقف حاسمة في التقدم العسكري الاخير لأذربيجان.
إن الرئاسة الأرمينية تحمل روسيا ما حدث في الإقليم نتيجة عدم تدخلها الواضح ووقوفها غير المباشر مع الحكومة الأذرية رغم أنها تتمتع بوجود قوات لحفظ السلام ولم تستطع وقف الزحف العسكري و القتال الذي أبدته القوات الأذرية وانتهى بسيطرتها الكاملة على إقليم قره باغ، وهذا يعني إمكانية انسحابها من منظمة الأمن الجماعي واتجاهها لتعزيز علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قواتها تجري مناورات عسكرية مشتركة مع وحدات أرمينية عند بدء الحملة الأذرية على الإقليم في حين أن الرئاسة الارمينية رفضت إجراء مناورات عسكرية مع موسكو في كانون الثاني 2023 مما آثار استياء القوات الروسية.
أن عوامل عديدة أدت إلى تقوية الجيش الأذري وتقدمه وتحقيق انتصارات عسكرية ميدانية، كان منها ضعف وتراجع القوات الأرمينية والتناقض في التصريحات الرسمية حول عائدية إقليم قره باغ وانصراف الدول الأوربية عنها واهتمامها بالنتائج التي ألت إليها الحرب الروسية الأوكرانية وتبعياتها الاقتصادية وما يتعلق بشؤون الطاقة والموارد المالية والتجارية وحاجتها إلى الغاز الاذربيجاني واستعداد (باكو) لتزويد أوربا عبر تركيا التي تتمتع معها بعلاقات وثيقة، كما وأن القيادة الروسية اعتمدت سياسة التفاوض وحل المشاكل عبر الاتفاقيات التي رعتها موسكو ولكنها لم تتمكن من تحقيق الغرض السياسي في منع أي اشتباكات عسكرية بسبب ابتعادها وانشغالها بنزاعها مع أوكرانيا، واستجدت حالة في العلاقة بين موسكو وباكو تمثلت بوصول الأسلحة التي ترد لروسيا من إيران عبر الأراضي الاذربيجانية وهي بذلك تكون بحاجة إليها أكثر من علاقتها بأرمينيا التي وسعت علاقتها مع واشنطن والدول الغربية.
أدت العملية العسكرية في قره باغ إلى تكريس وضع جديد وواقع جيو سياسي سيكون له تأثير كبير على مناطق محيطة بجنوب القوقاز، فأصبحت أهمية أذربيجان إقتصادية وسياسية وإقليمية وعقدة مواصلات وربط اساسي لطرق التجارة والعبور ونقل المواد الخام، وتساهم في توسع النفوذ التركي وحضور مؤثر لإسرائيل وتأثير دولي للولايات المتحدة الأمريكية في مقابل تراجع النفوذ الروسي والإيراني.
يمكن قراءة المواقف الدولية والإقليمية والمصالح المشتركة والقاسم الكبير الذي يوحد المنافع والأهداف التي تحققت من استعادة إقليم قره باغ من خلال ردود الافعال والتصريحات التي أبدتها دول عديدة، فقد أيدت تركيا العملية العسكرية ورأتها (مبررة) لأنها تعتبر أذربيجان عمقها الاستراتيجي نحو دول آسيا الوسطى وتنوع العلاقات بينهما بدعم مشاريع تنموية في إقليم قره باغ لصالح الحكومة الذرية والاهتمام بالممر الرئيسي التاريخي ( زانغزور) الذي يربط باكو بأنقرة عبر اراضي أرمينية وحصول تركيا على الغاز الطبيعي والنفط الخام من أذربيجان، في المقابل تقدم تركيا الدعم العسكري والسياسي في صراعها ضد أرمينيا وكان لها دور كبير في نتائج المواجهة العسكرية التي انتهت بتفوق الجيش الأذري عام 2020.
أما إيران فانها ترى أن العملية العسكرية تهدد أمنها القومي مشروعها السياسي الإقليمي وان باكو وتل أبيب وأنقرة يسعون إلى قطع الطريق الرئيسي بينها وبين أرمينيا باتجاه أوربا وجعلها ضمن معضلة جيو سياسية، تستند بذلك الي معلومات بوجود وفد عسكري إسرائيلي برئاسة مدير وزارة الدفاع أثناء العملية في قره باغ، ولكنها ورغم علاقتها مع روسيا واستقبالها الكبير لوزير الدفاع ( سيرغي شويغو) في زيارته الأخيرة إلا انها ترى أن الهجوم الأذري كان ( بضوء أخضر روسي) ولكنها حذرت أذربيجان من أن اي عملية لتغيير الحدود والممرات تعتبر خط أحمر، وهذا ما جاء على لسان المرشد على خامنئي بقوله ( نحن فرحون بعودة الإقليم لباكو واذا ما كانت هناك سياسة لإغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا فإن الجمهورية الإسلامية ستعارض تلك السياسة).
وأضاف ان من حق أرمينيا ان ترفض شق ممر زنغزور لربط إقليم نخجوان باذربيحان عبر اراضيها كما يحق لإيران ان تدعم سيادة جارتها الشمالية ولو بالقوة واحباط المساعي لشق هذا الممر.
أما الجانب الروسي والذي يقود عملية حفظ السلام في المنطقة المتشابكة فإنه لا يريد حرباً مفتوحة يخسر فيها أرمينيا وأذربيجان ويسمح لنفوذ إقليمي اخر يتمثل بالاتراك والإيرانيين للسيطرة على منطقة جنوب القوقاز والتحكم بحيوتها، وانها ستعمل على التمسك بطموحاتها السياسية والاقتصادية في الحفاظ على مشروعها الخاص بطريق الشمال _ الجنوب الذي يوصلها بالهند وإيران.
تبقى الأهداف والغايات الدولية الإقليمية هي عنوان بارز لأي تحالفات او تجاذبات ترسم ملامحها المتغيرات السياسية والأحداث الميدانية لتُكون واقعاً ينذر بقادم من الحروب الثنائية او تحقيق رسم اتفاقات دولية بعيدا عن حالات التصعيد.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية