تتبع إيران مسارين متناقضين في ما يخص سياستها الخارجية ونشاطها النووي، فبينما تحاول على المستوى الدبلوماسي أن تكون منفتحة على علاقات جديدة مع بعض الدول، تبدو متعنتة وغير ملتزمة على الجانب الآخر في ما يخص الملف النووي، وكأنها غير عابئة لأي عواقب.
ويمكن القول إن الأسباب التي دفعت إيران إلى الثقة الدبلوماسية والتعتيم النووي واحدة، وأحد هذه العوامل هو نجاح التفاوض غير المباشر مع الولايات المتحدة والتوصل إلى صفقة الإفراج عن المسجونين الأميركيين في مقابل الإفراج عن الأرصدة المجمدة لدى بنوك كوريا الجنوبية، فضلاً عن تسهيل حصولها على مستحقاتها من الحكومة العراقية عبر بنوك قطرية.
محاولة إيران استثمار الانفراج الإقليمي وتشكيل علاقات مع دول المنطقة من جديد وتجاوز الخصومات والعمل على انتهاج مسار الدبلوماسية دفعتها إلى إجراء مزيد من الانفتاح على دول شاب التوتر العلاقات معها مثل مصر والمغرب والبحرين، ويمثل مسار الدبلوماسية والمصالح في المنطقة مناخاً جيداً للاستقرار والأمن الإقليمي، وربما خطوة مهمة على طريق التنمية واستثمار موارد الإقليم بصورة جماعية، إلا أن طهران حاولت توظيفه في صورة منحها الثقة لتتعنت بدلاً من تحقيق انفراج، فتزامنت المبادرات الإقليمية للتهدئة مع استعراض طهران لتجارب صاروخية جديدة بأنواع مختلفة، فضلاً عن منع ثمانية من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية العمل داخل إيران.
وفي مقابل تصريحات مدير الوكالة بأن إيران غير متعاونة أو غير مهتمة بالتعاون، ادعى المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أن موقف بلاده إيجابي تجاه الوكالة.
الموقف الإيراني الذي يتسم بعرقلة عمل مفتشى الوكالة الدولية، بل منع بعضهم من العمل على أراضيها، فضلاً عن عدم التعاون في شأن القضايا العالقة الخاصة ببعض الأماكن النووية غير المعلنة وتراجع إيران عن اتفاقها مع الوكالة حول تقديم إجابات في شأن تلك الأماكن، يؤشر إلى سياسة تعتيم نووي تنتهجها طهران بما ينتهك، ليس فقط التزاماتها في خطة العمل الشاملة المشركة، بل كذلك التزاماتها في معاهدة حظر انتشار السلاح النووي.
وسياسة التعتيم النووي لإيران قد تكون رد فعل على بيان دول الـ “ترويكا” الأوروبية في شأن عدم تعاون إيران ونيتهم عدم رفع العقوبات واستمرار حظر بيع واستيراد الأسلحة الذي كان مقرراً رفعه بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة وقرار الأمم المتحدة رقم (2231).
وتحاول إيران الضغط على الدول الأوروبية، وربما يكون التعتيم سياسة جديدة تنتهجها في محاولة لاستثمار الوقت الضائع من دون التوصل إلى إحياء الاتفاق مع واشنطن، والاكتفاء بالاتفاق الموقت بينهما الذي ينص على عدم تخصيب اليورانيوم بنسبة تتجاوز 60 في المئة.
وبموجب خطة العمل المشتركة الشاملة يجب أن تقتصر إيران على تركيب ما لا يزيد على 5060 من أجهزة الطرد المركزي الأقدم والأقل كفاءة في نطنز حتى عام 2026، أي بعد 10 أعوام من “يوم تنفيذ الصفقة” في يناير (كانون الثاني) 2016.
كما يجب على إيران خفض مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 98 في المئة إلى 300 كيلوغرام، وهو رقم لا يجب تجاوزه حتى عام 2031، كما يجب الحفاظ على مستوى تخصيب مخزون اليورانيوم عند 3.67 في المئة.
وإضافة إلى ذلك يجب البحث والتطوير في مفاعل نطنز فقط، وأن يكون محدوداً حتى عام 2024، وكذلك لا يسمح بالتخصيب في منشأة فوردو حتى عام 2031، وأيضاً وافقت إيران على تنفيذ البروتوكول الإضافي لاتفاق ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تسمح للمفتشين بالوصول إلى أي موقع داخل إيران.
وبفرض التزام إيران بخطة العمل المشركة وعدم انتهاكها منذ عام 2019، فقد كان من المقرر أن يستغرق صنع قنبلة نووية 12 شهراً حتى يكون لديها ما يكفي من اليورانيوم المخصب بنسبة 90 في المئة لبناء سلاح نووي، وهو ما يسمى “وقت الاختراق”، بينما مع استمرار انتهاكات إيران انخفضت فترة الاختراق لتصبح نحو أسبوعين.
وتستمر طهران في رفض وصول مفتشي الوكالة، كما أنه منذ الـ 23 من فبراير (شباط) 2021 لم تبلغ إيران الوكالة بمخزون الماء الثقيل كما لم تسمح برصد كمياته، ومن ثم فإن سياسة التعتيم النووي التي تنتهجها إيران هي امتداد لانتهاكها التزاماتها في خطة العمل الشاملة المشتركة التي بدأتها منذ عام 2019، وشرعنتها بالقانون الصادر عن البرلمان الإيراني ذو الخلفية المتشددة عام 2021، ومن ثم فهي تحقق غايتها في فرض واقع نووي جديد يضعها على عتبة دولة نووية باعتراف دولي.