تسبّبت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة وأهله بخلط الأوراق وزيادة تعقيد المشهد، وإشعال فتيل أزمة إقليمية ودولية. ومن الواضح أن إسرائيل ترغب بتوجيه ضربة قاصمة لحركة حماس، وتقول المعطيات إنها لن تكون كسابق الحروب، قصقصة للأجنحة أو توجيه ضرباتٍ موجعة، بل ثمّة رغبة إن لم تكن بإزالة حركة حماس، فهي شل قدراتها العسكرية إلى أبعد حد ممكن، وبما يُفقدها حركيّتها العسكرية والأمنية والسياسية في عموم فلسطين والمنطقة، ربما لعقود بعيدة، خصوصا مع فشل روسيا في ترجمة المشروع الذي صاغته في مجلس الأمن ووقف إطلاق النار، رغم حصوله على تسعة أصوات من 15.
ورغم ضعف فرص توسيع دائرة الصراع، لا مؤشّرات لتوقف حدّيته أو تداعيات الحرب ونتائجها في المدّة الطويلة المقبلة ضمن قطاع غزّة وعموم فلسطين، من حيث تدمير البنية التحتية، ومئات الآلاف من المُهجّرين عدا المفقودين، ومن فقد حياته خصوصا من المدنيين، والآثار النفسية والاجتماعية على القواعد الاجتماعية. وإذا كانت تلك النتائج مخصّصة لأهالي غزّة وفلسطين، فإن سورية والعراق لن تكونا في منأى عن دائرة الصراع إذا اتّسع رحاها، أو طاول القصف الجوي القواعد العسكرية الدولية على أراضيها، بسبب وجود الفصائل والتشكيلات العسكرية الإيرانية في كلتا الدولتين، والداعمة لحركة حماس. علماً أن خروج الحرب من إطار محلي إلى إقليمي سيعني مزيدا من التهديدات على أمن التحالف الدولي نفسه ومصالحه في سورية والعراق، وستكونان من أكثر المناطق المشمولة بالتأثيرات المباشرة للحرب، خصوصا إقليم كردستان العراق، بحكم وجود قواعد أميركية في الإقليم، واحتمال تعرّضها لمزيد من القصف الصاروخي من الفصائل الإيرانية، إضافة إلى الاصطفاف السياسي لبعض الجهات الكردستانية ذات التواصل مع إيران، أو التي لها علاقات دعم متبادل معها، وستجد نفسها أمام قاعدة “ردّ الدين” لها أمام أيَّ تأثير أو خطر عسكري على أماكن القوات الإيرانية، عدا عن دفعها فاتورة اصطفافها مع إيران، فالأخيرة تمتلك أدوات تدخّل كبيرة ومفاعيل مباشرة للتأثير على القرار السياسي لكردستان، عبر أكثر من حزب سياسي تملك فاعلية مديدة في إحداث عراقيل أمام مزيدٍ من تطور الإقليم وتطبيق المواد الدستورية أو قضية الميزانية وتصدير النفط إلى تركيا. والأخطر أن بعض تلك الأطراف السياسية تمتلك أذرعا عسكرية مدرّبة ومموّلة، ولا يمكن تجاهلها بسهولة. في المقابل، الاحتمال الأرجح أن تجني أطراف كردستانية تقف في الضفة المقابلة لذلك المحور سياسياً وعسكرياً ثماراً طال انتظارها.
تجعل المخاوف على مصالح التحالف الدولي وقواعده القوات الأميركية في حالة تأهب واستعداد مستمرّ، خشية أن يشمل الاستهداف مزيدا من المصالح الغربية والأميركية في سورية والعراق
تجعل المخاوف على مصالح التحالف الدولي وقواعده القوات الأميركية في حالة تأهب واستعداد مستمرّ، خشية أن يشمل الاستهداف مزيدا من المصالح الغربية والأميركية في سورية والعراق، وحيرة القوات الأميركية أمام سيولة المشكلات بين كردستان والعراق المركز، وتكرار النخب السياسية العراقية تصرّفاتٍ وسلوكياتٍ من شأنها تقويض أمن الإقليم وحدوده وصلاحياته، سواء عبر تسييس المحكمة الدستورية أو إيقاف حصّة الإقليم من الميزانية، وحقّه في تصدير النفط، وقضية المناطق الكردستانية خارج الإقليم والمعروفة بمناطق المادة 140، يجعل من الوجود الأميركي صمّام أمان لإيقاع علاقة الإقليم مع العراق. كما أن كُرد سورية وشمال شرق البلاد ليسوا بعيدين عن نتائج الحرب على غزة وتأثيراتها وإفرازاتها، بسبب كثافة القواعد الأميركية والتحالف الدولي، خصوصا عبر خطوط التماسّ مع القوات السورية والإيرانية، لذا سيدفع كُل طرف فاتورة موقعه واصطفافه.
ستجعل تلك المخاطر على المصالح الدولية والقواعد العسكرية للتحالف الدولي ومصالحها الاستراتيجية من الوجود الأميركي في المنطقة ذات بعد استراتيجي طويل المدى، وستحتاج لمزيد من الحلفاء والأصدقاء وزيادة الدعم لها، لضمان حماية أمنها القومي الاستراتيجي ومصالحها في الشرق الأوسط. وربما لن تجد في عموم العراق أفضل من إقليم كردستان وقوتها العسكرية (البشمركة) حلفاء يُؤتمن لهم، وممارسة أقصى درجات الضغط العميق على السليمانية للإسراع بتوحيد جميع القطاعات العسكرية في الإقليم ومركزية القرار العسكري. ولن يكون مسموحاً للأحزاب المتحكّمة بالقرار في السليمانية بمزيدٍ من الرضوخ والتعامل مع حكومة المركز، إذا كانت موالية لطهران، وستجد السليمانية نفسَها محاصرة ما بين علاقاتها مع إيران، وموقع الاصطفاف في بغداد، والواجب القومي مع أربيل.
قد تسعى الإدارة الأميركية إلى زيادة الدعم الدولي المشروط لقوات سوريا الديمقراطية
وبخصوص حماية قواعد التحالف الدولي في شمال شرق سورية، فإن الإدارة الأميركية قد تسعى إلى زيادة الدعم الدولي المشروط لقوات سوريا الديمقراطية. ووفقاً لذلك، تدور في مخيال النُخب المقرّبة والمحسوبة على الإدارة الذاتية إمكانية تزويد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بمضادّات صواريخ ونظام دفاع جوي لصد هجمات المسيّرات الإيرانية، وهو أمرٌ في غاية الصعوبة؛ فيمكن لقوات التحالف القيام بتلك المهام، إضافة إلى عدم رغبة التحالف وأميركا بإزعاج الجانب التركي، أو استفزازه بهذا الفعل، لكن من الممكن جدّاً حماية إقليم كردستان بنظام دفاع جوي، ولو لم يكن كما يرغب به الكرد.
في المقابل، فإن تكرار هجمات القوات الإيرانية “الخجولة”، خصوصا عبر المسّيرات ضد قواعد التحالف الدولي في سورية والعراق، رُبما تكون إحدى وسائل إيصال الرسائل الدبلوماسية والرغبة بعدم توسعة رقعة الحرب، والحصول على مرونة في تعامل الغرب معها، وهو ما بدا عبر تصريحات مسؤولين دبلوماسيين إيرانيين، إذا لم تهاجم إسرائيل إيران، فإن بلادهم لن تتدخّل في الصراع. ومساعي طهران لعدم فرض عقوبات جديدة عليها بتهمة دعمها عملية طوفان الأقصى. وستؤثّر هذه العقوبات، في حال فرضها، على أيَّ حليفٍ لإيران، ولن تكون بعض الأطراف الكردستانية ذات الصلة بعيدة عنها. وصحيحٌ أن احتمال توسيع رقعة الحرب المباشرة بين واشنطن وطهران ضئيل، لكن دائرة احتمالات الحرب “بالوكالة” تتوسّع في المنطقة عموما، وسورية والعراق خصوصا. وحينها ستكون التأثيرات المباشرة على كردستان العراق والمنطقة الكردية في سورية وشمال شرق سورية واضحة جداً، وستجد الأطراف الكردية المقرّبة من محور إيران، أكثر من محور أميركا، نفسها، مرّة أخرى، في ساحة مُحاصرة، خصوصا الأحزاب الإسلامية الكردستانية، المقرّبة من الإسلام السياسي، والمدافعة عنه.
سيتسبّب أي تغيير وتحوّل في قواعد الاشتباك الحالية ضمن جغرافية غزّة إلى حرب إقليمية بمزيد من خلط الأوراق
الواضح أن الحرب على غزّة ستفرز واقعا جيواستراتيجيا جديدا، مع مزيد من الاحتياطات الأميركية والغربية للحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية، وهو ما يقود حتما إلى تغيرات في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، ومنها زيادة الدعم والاستقرار في إقليم كردستان، يرافقه مزيد من الضغط على الإدارة الذاتية لتغيير سلوكياتها تجاه معارضيها والشروع بإصلاحات سياسية حقيقية، ليس أقلها الانتقال إلى مرحلة تفاوضية جديدة، وخصوصا أن الكُرد وعموم السوريين لم يتعافوا بعد من تأثيرات الحرب ضد “داعش”، ومن الأزمة الاقتصادية والجوع الكافر الذي يفتك بالمنطقة، واستمرار مخاطر تدخّل تركي جديد. وسيتسبّب أي تغيير، وتحوّل في قواعد الاشتباك الحالية ضمن جغرافية غزّة إلى حرب إقليمية، بمزيد من خلط الأوراق. وربما يساهمان، استهداف المسّيرات الإيرانية قواعد التحالف الدولي وانشغال الأخيرة بالتركيز على التصدّي لتلك الهجمات، في إعادة نشاط مسلحي تنظيم داعش في شمال شرق سورية ومناطق من العراق ولو جزئيا، إضافة إلى انتعاش حركة المعارضين والرافضين وجود قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور، خصوصا المناطق المتاخمة لنهر الفرات، حيث توجد قوات حكومية سورية وإيرانية. ومع زيادة منسوب مشاعر الحقد والكراهية للقواعد الاجتماعية العربية ضد أميركا وإسرائيل بسبب الحرب على غزّة، فإن دعم التحالف الدولي “قسد” سيشكّل حافزا نفسيا جديدا لسلوكيات معارضة بحدّية جديدة. إضافة إلى أن توسيع رقعة الحرب خارج غزّة وتفرّغ التحالف الدولي لها في أماكن وجود قواعدها، ومنها الشمال الشرقي لسورية، رُبما يمنح تركيا فرصة استغلال الوضع لمزيدٍ من الضغط، سواء عبر رفع منسوب التهديدات، أو الطائرات المسيّرة، أو القصف الصاروخي، وإن كان التدخّل البرّي مستبعدا في تلك الحالة.
ووفقاً لتطور الأحداث وزيادة الاتصالات بين تركيا وإيران ودفاعهما عن “حماس”، قد تشهد القضية الكردية صعوداً جديداً، وخصوصا أن الوضع الداخلي لإسرائيل لا يسمح بإنهاء العملية العسكرية من دون “انتصار” للتغطية على ما تعرّض له أمنها القومي، واعتقال الجنود الإسرائيليين، عدا عن الفساد الداخلي للحكومة. لذا تسعى جاهدة لإلحاق الضرر الكبير بحركة حماس، وربما يقود ذلك إلى دخول بعض الأحزاب الكردستانية المقرّبة أو ذات العلاقات مع إيران في نفقٍ مظلم، وخصوصا إن العراق ساحة مصالح وتواصل وخلفية اقتصادية لإيران، وبالتالي، فتح الطريق أمام الضغط على باقي أذرع إيران في سورية والعراق.