فازت السلطة وخسرت المعارضة في الانتخابات النيابية والرئاسية الأخيرة التي جرت في شهر أيار الماضي. وتمكن الرئيس أردوغان من الفوز بولايته الثالثة رئيساً للجمهورية ما سيتيح له تشكيل ملامح المرحلة الجديدة حتى نهاية ولايته في 2028.
وقد شكل حكومة جديدة لم يحتفظ فيها إلا بوزيرين من الحكومة السابقة، في حين أقصى القائمين على أهم الوزارات كالدفاع والخارجية والداخلية والمالية العامة إضافة إلى رئاسة جهاز الاستخبارات الوطني التي سلمها لأقرب مستشاريه السياسيين إبراهيم كالن. وشهدت وزارة الداخلية تصفيات مهمة لطاقم الوزير السابق سليمان صويلو الذي أحيل إلى نائب في البرلمان بعد سنوات طويلة على رأس الداخلية تعرض فيها لانتقادات لاذعة من المعارضة والإعلام. ولم يتوقف الأمر عند تصفية إرث صويلو، بل تجاوزه إلى أداء مختلف برزت نتائجه في حملات اعتقال لشبكات إجرامية طالت مافيات الاتجار بالمخدرات.
غير أن تطورات مختلفة على جبهة القضاء أدخلت ارتباكاً على المشهد السياسي تجلى بصورة رئيسية في المعركة داخل الجسم القضائي بين المحكمة الدستورية ومحكمة النقض، وكلاهما من المحاكم العليا. ففي دعوى نقض مقامة في قضية النائب في البرلمان جان آتالاي، المسجون بتهمة المشاركة في أحداث منتزه «غزي» في أيار 2013، حكمت المحكمة الدستورية لمصلحة إطلاق سراحه فوراً لأنها اعتبرت الحكم عليه لاغياً. لكن محكمة النقض رفضت هذا القرار بدعوى أن أحكامها مبرمة. ولم تكتف بذلك بل اعتبرت أن أعضاء المحكمة الدستورية الذين صوتوا إيجاباً لمصلحة القرار القاضي بإطلاق سراح آتالاي (9 من أصل 12) قد ارتكبوا بذلك جرماً يقتضي عزلهم.
تطورات مختلفة على جبهة القضاء أدخلت ارتباكاً على المشهد السياسي تجلى بصورة رئيسية في المعركة داخل الجسم القضائي بين المحكمة الدستورية ومحكمة النقض، وكلاهما من المحاكم العليا
المشكلة هي أن المحكمة الدستورية العليا هي أعلى محكمة في الجسم القضائي وقراراتها ملزمة لجميع المحاكم الأخرى إضافة إلى السلطة التنفيذية. وقد سمح تعديل دستوري جاء بمبادرة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، في العام 2011، للأفراد بالتقدم بشكاوى إليها حين تستنفد جميع الفرص لإنصافهم في المحاكم، أي حتى بعد صدور قرارات مبرمة بحقهم من محكمة النقض. وهذا ما فعله محامو النائب آتالاي. لكن محكمة النقض بالمقابل ترى الأمر من منظار آخر هو أن القرارات الصادرة عنها نهائية ولا يجوز نقضها.
لكن لهذا التضارب في الصلاحيات وجه سياسي لا يخفى على أحد. فقضية آتالاي سياسية، وهو نائب معارض ينتمي إلى حزب العمال التركي، فاز في الانتخابات الأخيرة بهذه الصفة على رغم أنه كان معتقلاً قيد المحاكمة أثناء العملية الانتخابية. وجاءت ردود الفعل واسعة وكبيرة على مسلك محكمة النقض، ليس فقط من أحزاب المعارضة، بل من داخل الحزب الحاكم نفسه. وأشار كثير من المعلقين إلى أن جميع أعضاء «الدستورية» قد تم تعيينهم في عهد حكومات «العدالة والتنمية» وأن التعديل الدستوري المشار إليه أعلاه كان قد جاء بمبادرة من الحزب نفسه. واتجهت الأنظار إلى رئيس الجمهورية الذي صرح بأنه لن ينحاز إلى أي من الطرفين تاركاً الوضع معلقاً.
وهكذا تمت إحالة الموضوع برمته إلى التعديل الدستوري الذي سبق للرئيس وأعلن أنه سيطرح في الفترة القادمة، ومن المتوقع على ضوء هذا الحدث أن يتضمن مشروع الدستور الجديد تعديلاً في صلاحيات المحكمة الدستورية تجنباً لوقوع تضارب في الصلاحيات مماثل لما جرى بشأن قضية آتالاي. وقد يكون ذلك بسحب صلاحية النظر في الشكاوى الفردية التي قد يتم تقديمها إلى المحكمة الدستورية.
ويقودنا هذا إلى اقتراح تقدم به الرئيس أردوغان لتعديل في النظام الرئاسي بإلغاء شرط حصول المرشح للمنصب الأول على نصف أصوات الناخبين + صوت واحد على الأقل للفوز في الانتخابات، بحيث يفوز من يحصل على العدد الأكبر من الأصوات بصرف النظر عن نسبتها إلى المجموع العام. وبرر أردوغان اقتراحه بالقول إن الصيغة الحالية قد دفعت إلى إنشاء تحالفات عجيبة كتحالف الستة “أو ربما الستة عشر!” على حد تعبيره المتهكم. وقبل أن تلجأ أي من أحزاب المعارضة إلى التعليق على هذا الاقتراح، أعلن زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي رفضه الحاسم بالقول إن الشرط الشارط للنظام الرئاسي «الذي جئنا به» هو حصول المرشح على أكثر من نصف أصوات الناخبين. مع العلم أن إقرار أي مشروع دستور أو تعديل دستوري غير ممكن بغير تأييد نواب الحركة القومية في البرلمان.
واجتهد بعض المحللين بالقول إن أردوغان طرح هذا الاقتراح وهو يعرف أنه غير ممكن التحقيق، ليمرر شيئاً آخر مقابل التخلي عنه. ويكتسب هذا التحليل وجاهته من أن أردوغان ليس بحاجة لهذا التعديل بعدما استنفد شخصياً كل الفرص للترشح مرة أخرى (رابعة) إلا إذا كان في ذهنه ترشيح شخص آخر من حزبه في الانتخابات القادمة خلفاً له، في الوقت الذي لم يترك فيه أياً من الشخصيات ذات الوزن الشعبي في قيادة الحزب بعدما أقصى أبرز قياداته تباعاً في السنوات الماضية. والأقرب إلى المنطق، إذا أراد أن يضمن لنفسه الاستمرار في قيادة البلاد لما بعد العام 2028، هو الانتقال إلى النمط الروسي، أي العودة إلى رئاسة الوزراء مع جمع مزيد من الصلاحيات في يده على حساب صلاحيات الرئاسة، وتسليم هذا المنصب إلى أحد المقربين المخلصين.
أما الفريق الاقتصادي بقيادة وزير المالية محمد شمشك فقد تحرر من وطأة الوصاية الرئاسية ووضع برنامجاً ليبرالياً «أصولياً» مع وعود بخفض معدلات التضخم والبطالة واستقرار قيمة الليرة واجتذاب الاستثمارات الخارجية. بعد انقضاء نحو ستة أشهر لم يحدث تراجع في التضخم، وواصلت الليرة انخفاضها وإن كان ببطء شديد.
أما في جبهة المعارضة فقد ظهرت آثار الهزيمة في الانتخابات بصورة جلية في أكبر حزبين في “التحالف السداسي”. فقد انفرط عقد هذا التحالف بعدما خرجت منه الأحزاب الصغيرة بغلة وازنة نسبياً من المقاعد النيابية، في حين اشتعلت الخلافات الداخلية داخل كل من حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد. فخسر كمال كليتشدار أوغلو زعامة حزبه لمصلحة أوزغور أوزال الذي سيتقاسم السلطة في قيادة الحزب مع أكرم إمام أوغلو، في حين تتابعت الاستقالات من الحزب الجيد بما ينذر بتآكل حجمه وتأثيره على المعادلات السياسية. كل هذا قبيل الانتخابات البلدية التي من المتوقع إجراؤها في أواخر آذار القادم.