منذ زمن طويل، دخل وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر التاريخ، وربما قبل عقود كثيرة من رحيله، اليوم الخميس، عن قرنٍ من العمر، يصح القول معه إنه الدبلوماسي الأكثر التصاقاً في العالم بمقولة “أن تكون غنيّاً عن التعريف”. وإذا كان لكيسنجر ما نعرفه عنه من مساهمة كبرى، وربما الأكبر، في رسم السياسة الأميركية الخارجية في سبعينيات القرن الماضي، في عهدي الرئيسين الراحلين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، إلا أن الأحداث التي صبغت تلك المرحلة، والدور المحوري لكينسجر فيها، والتي أرست مفهوم “الواقعية السياسية” أو الـ”ريل بوليتيك” للولايات المتحدة من الباب العريض، جعلت من أول وزير خارجية يهودي في تاريخ الولايات المتحدة، ليس فقط أشهر من أن يعرّف في تلك الفترة وما بعدها، بل الأكثر جدلية، من حيث الزاوية التي تقف فيها للنظر إليه وإلى إرثه.
فبينما يعدّ عرّاب مفهوم البراغماتية السياسية للحفاظ على القوة والهيمنة الأميركية “مؤلهاً” من قبل البعض، أو “ثعلباً” في الإشارة إليه كدبلوماسي من الطراز الرفيع وقائد مدرسة في فن إبرام الصفقات وإحداث الاختراقات، إلا أنه ظلّ بالنسبة لقسم آخر في العالم، ولجزء حتى من الأميركيين الليبراليين، هذا السياسي الأميركي “الشرير”، الملطخة يداه بالدماء، والذي كان يستأهل الملاحقة السياسية والقضائية بدل التكريم.وتوفي هنري كيسنجر، اليوم الخميس، في مسقط رأسه بولاية كونكتيكت عن مائة عام، قضى أقلّ من عقد منها فعلياً في الإدارة الأميركية (بين 1967 و1976) مستشاراً للأمن القومي ووزيراً للخارجية، حيث شهد على الفترة المضطربة من عهد ريتشارد نيكسون، وسنوات جيرالد فورد، ومهّد لانتهاء حرب فيتنام، والانفتاح العربي الإسرائيلي، لكن قبل كل ذلك، أرسى قواعد الانفتاح الأميركي على الصين، وإبطاء سباق التسلّح النووي مع الاتحاد السوفييتي.
هنري كيسنجر… الدبلوماسي “الماكر” والواقعي
ويعدّ كيسنجر الصورة المثالية للدبلوماسي الأميركي الطموح والمحنك والماكر، أو كبير الدبلوماسيين الأميركيين في كل العصور، ولكن الذي يرى دائماً أنه “على صواب”، بحسب والتر إيزاكسون، وهو أشهر من كتب سيرة كيسنجر على الإطلاق في كتابه “كيسنجر” الصادر عام 1992.
وعلى الرغم من ترويجه لسياسة القوة الأميركية الفجّة، التي ساهمت في إرساء النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة، إلا أنه كان أيضاً عرّاب البراغماتية السياسية وتقديم التنازلات لحماية المصالح الأميركية والأمن القومي الأميركي، وهو أكثر مما بقي من إرثه اليوم، حيث يلامس هذا النهج في “السياسة الواقعية” معظم مناحي السياسة الخارجية الأميركية، والتي قد يكون كيسنجر لعب أيضاً أدوراً مهمة فيها، بعد مغادرة الإدارة الأميركية، مستشاراً وراسمَ سياسات وخبيراً، وجّه معظم الرؤساء الأميركيين، من الديمقراطيين والجمهوريين، آذانهم له، واستضافوه في البيت الأبيض للحصول على الإرشاد.
نشأ كيسنجر في نيويورك بعدما هربت عائلته من ألمانيا النازية
توفي كيسنجر في كونكتيكت حيث ستقام له جنازة عائلية خاصة، على أن تقام في وقت لاحق جنازة رسمية في نيويورك، الولاية التي نشأ فيها بعدما هربت عائلته من ألمانيا النازية. وحافظ كيسنجر على لكنته الألمانية حتى وفاته، لكن قيل عنه إنه لم يكن أبداً يحب التطرق إلى مسألة “الهولوكوست”. وكانت آخر رحلة خارجية لكيسنجر، في يوليو/تموز الماضي، إلى الصين، حيث التقى الرئيس شي جين بينغ، علماً أن بكين تصفه بـ”الصديق”.
ولم يكن كيسنجر يزور الصين كصديق فقط، حيث ذهب إليها أكثر من مائة مرة، منذ أن عمل في السياسة وحتى رحيله، بل كان يحط فيها، وخصوصاً في العقود الأخيرة من عمره، كبلد يشكل أهم ركن من أركان إرثه السياسي، بعدما تمكن خلال فترة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي من التواصل مع بكين، ما أفضى إلى الزيارة التاريخية لنيكسون إلى الصين في عام 1972، ولاحقاً إرساء الولايات المتحدة علاقات رسمية هذا الصين، التي تحولت لاحقاً لتصبح المنافس الاقتصادي الأول لأميركا، وربما العسكري.
أخبار
كيسنجر: لا مبرر لبقاء أوكرانيا خارج حلف شمال الأطلسي
ويجادل خبراء في أن “التنازل” الأميركي مع الصين كانت له أكلاف، ولكن من مفهوم “السياسة الواقعية”، كان الهدف منه الحفاظ على الهيمنة الأميركية، والرأسمالية العالمية، التي كان كيسنجر مؤمناً بها ومناضلاً من أجلها. وحمله ذلك إلى التفاوض أيضاً مع الاتحاد السوفييتي، ليكون رائداً في سياسة الانفراج الدولي معه، حيث إن من بين أهم إنجازاته معاهدة الحدّ من الأسلحة “سولت 1” في عام 1972، مع السوفييت، التي أبرمت في عزّ الحرب الباردة، وأدّت إلى إحداث “انفراجة” وتخفيف للتوتر في العلاقات.
الدبلوماسية الواقعية والدبلوماسية المكوكية
وفي الشرق الأوسط، أرسى كيسنجر ما بات يعرف بـ”الدبلوماسية المكوكية”، للفصل بين القوات الإسرائيلية والعربية بعد حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، والتي قال عنها إنها كانت “من أصعب الاختبارات” لعمله وزيراً للخارجية الأميركية، لا سيما بعدما هدّدت الحرب وجود إسرائيل. وقد ساهمت هذه الدبلوماسية المكوكية في استقرار بالعلاقات الإسرائيلية ـ العربية.
أرسى كيسنجر ما بات يعرف بـ”الدبلوماسية المكوكية”، للفصل بين القوات الإسرائيلية والعربية
وكالكثير من السياسيين الجدليين حول العالم، منح كيسنجر في عام 1973 جائزة نوبل للسلام بسبب مفاوضاته لإنهاء حرب فيتنام، فيما رفض نظيره الفيتنامي الشمالي لو دوك تو استلام الجائزة حينها. وتُعتبر “نوبل السلام” لكيسنجر الجائزة الأكثر جدلية أيضاً في التاريخ، إذ إن الرجل، بشكل أو بآخر، هو من السياسيين الأميركيين المحرّضين على الحروب، أو المحبذين للحروب، لخدمة أهداف الأمن القومي الأميركي، رغم أن مفاوضاته بشأن اتفاقية باريس للسلام في ذلك العام أخرجت أميركا من تورطها في فيتنام.
ويُتهم كيسنجر بأنه أطال أمد حرب فيتنام، في حين كان بالإمكان إنهاؤها أبكر. ولهذه الأسباب، وجّهت اتهامات لكيسنجر في محاكم حول العالم بالقتل المتعمد للمدنيين في فيتنام وكمبوديا، والتآمر المتعمد في عمليات قتل جماعي وإعدامات في بنغلادش، والانخراط شخصياً في التخطيط لقتل مسؤول دستوري رفيع في دولة ديمقراطية (سلفادور الليندي)، وهي تشيلي، لم تكن في حالة حرب مع الولايات المتحدة، والانخراط شخصياً في مؤامرة لتصفية رئيس دولة ديمقراطية، وهي قبرص، وتسهيل ودعم حملات الإبادة في تيمور الشرقية. كل هذه الأسباب جعلته في عقود عمره الأخيرة يتجنب السفر إلى عدد من دول العالم، خشية الاعتقال أو الملاحقة أو التصفية الجسدية.
هكذا، رحل كيسنجر تاركاً إرثاً يشبه أميركا، جدلياً كثيراً، ولكن بهالة كبيرة من النفوذ. وأشاد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بذكرى كينسجر، حيث وصفه بـ”الكريم جداً في حكمته ونصائحه”، مضيفاً أن “القليل من الأشخاص كانت لهم فرصة كتابة التاريخ مثل هنري كيسنجر”. كما أثنى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إسهامات كيسنجر “رجل الدولة الحكيم وصاحب الرؤية” في العلاقات الأميركية السوفييتية، وأشادت بكين به كـ”صديق الشعب الصيني” وأثنت على “دبلوماسي لعب دوراً محورياً في إرساء العلاقات بين بكين وواشنطن”.