تتسم العقود الأخيرة بعدائية السياسات الإيرانية والإسرائيلية تجاه بعضهما بعضاً على النحو الذي اتخذ خلال الأعوام الأخيرة أشكالاً مختلفة، منها ما سمته تل أبيب الحملات بين الحروب، وما أعلنته طهران بوحدة الساحات، وبينهما حرب الظل التي اتخذت أشكالاً عدة منها حروب سيبرانية وبحرية عبر الهجوم على ناقلات وسفن إسرائيلية، وتجسس واختراق إسرائيلي للداخل الإيراني وتنفيذ مهمات على أراض إيرانية.
لكن مع الوضع في الاعتبار أن الدول ترسم سياستها الخارجية وفق المصالح والواقعية السياسية، فهل لم تتبن إيران وإسرائيل أية سياسات تعاونية من منطلق الواقعية السياسية والمصالح القومية؟ وهل العداء سمة العلاقات بينهما منذ عام 1979؟
المقصود بإيران في هذه المقالة هو إيران ما بعد الثورة عام 1979 التي اختلفت عن إيران في عهد الشاه، فمن الطبيعي أن تؤدى التحولات الداخلية في دولة ما إلى تغيير سياستها الخارجية ومن ثم كيف ترى ذاتها وموقعها في النظام الإقليمي والدولي؟ ومن ثم شبكة حلفائها وأصدقائها وأعدائها، ولا سيما إذا كان نظاماً ثورياً راديكالياً جاء بأيديولوجية متشددة وأعلن نيته تصديرها إلى خارج حدوده منذ بدايات نشأته.
لذا فإن الثورة الإيرانية التي جاءت بالخميني وأرسى بعدها النظام الإسلامي وفق فهمه وأفكاره، لعبت دوراً في تحول علاقات إيران في المنطقة، فتحولت من حليف للولايات المتحدة في عهد الشاه إلى عدو، كما أعلنت العداء لكل الدول الصديقة لواشنطن، وعلى رغم العداء المعلن للولايات المتحدة ووصفها بالشيطان الأكبر وإسرائيل بالشيطان الأصغر، إلا أن العداء لإسرائيل كان خطابياً ومحدوداً.
والمثير للانتباه هو أن النظام الإيراني الوليد وعلى رغم اتسامه بالتشدد والصبغة الأيديولوجية، اتسمت سياساته بالبراغماتية تجاه إسرائيل وشهدت تعاوناً بينهما.
وفي ظل النظام البهلوي كانت بين البلدين علاقات وثيقة وتحالف استراتيجي، وقد انتهت هذه الفترة من العلاقات مع صعود النظام الإسلامي حين تعاونت إسرائيل وإيران في عدد من القضايا قبل عام 1979 في إيران، وكل منهما كان حليفاً للولايات المتحدة، وكان هناك تخوف من النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط، فضلاً عن محاولة إسرائيل موازنة القوى العربية من خلال التعاون العسكري والاستخباراتي والاقتصادي مع دول غير عربية مثل إيران.
ومع مجيء النظام الإيراني الإسلامي اتبع النهج نفسه القائم على البراغماتية والمصالح المشتركة، مما يمثل تناقضاً حاداً لطبيعة التنافس الحالي مع إسرائيل. واستمرت إيران الخميني في إدراك ضرورة وجود ثقل موازن إسرائيلي لجيرانها العرب، خصوصاً العراق، لذا كان وجود العراق كخصم مشترك لكل من إسرائيل وإيران الخميني حافزاً للتعاون بينهما خلال فترة الثمانينيات.
وتجلى ذلك خلال حرب إيران والعراق لمدة ثمانية أعوام، حرب الخليج الأولى، وقد ساعدت العلاقة المنخفضة المستوى مع إسرائيل النظام الإيراني في تجنب العزلة الكاملة، واستفاد من الأسلحة الإسرائيلية والأميركية التي كان في أمسّ الحاجة إليها، وكان لإسرائيل نفسها مصلحة أساس في هزيمة العراق إذ كانت تنظر إلى صدام حسين باعتباره تهديداً مركزياً لأمنها.
وكانت إيران في حاجة ماسة إلى التكنولوجيا الحديثة والمعدات العسكرية، فقد دخلت الحرب معتمدة على الأسلحة التي ورثها النظام الإيراني بعد الثورة من عهد لشاه، ونظراً لانقطاع الأسلحة الأميركية فقد أصبح الاعتماد على إسرائيل في شأن التعاون العسكري.
وفى عام 1981 قررت إسرائيل قصف المفاعل النووي العراقي “أوزيراك”، بينما كان لا يزال قيد الإنشاء ودمرته جزئياً باستخدام طائرات “F-15″ و”F-16”.
إن سعي صدام حسين إلى امتلاك القدرات النووية، وفي ضوء دلالاته واستخدام القوة العسكرية، كان العراق المنتصر في الحرب مع إيران سيمثل تحدياً لإسرائيل أكبر من الثورة الإيرانية والنظام الثيوقراطي، لذا كانت قضية “إيران كونترا” حين وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن عام 1980 على شحن طائرات “فانتوم” وأسلحة للجيش الإيراني.
بعضهم اعتبر القرار الإسرائيلي انتهاكاً للسياسة الأميركية التي دعت إلى عدم إرسال أية أسلحة إلى إيران حتى إطلاق الرهائن داخل السفارة الأميركية في طهران، لكن الأوقع أن الولايات المتحدة تعاونت في شأن إمداد إيران بالأسلحة من أجل مفاوضات إطلاق الرهان، كما تعاونت للخروج من المأزق الاقتصادي المتردي وحاجتها إلى الأسلحة ومن ثم إطلاق الرهائن.
وأصبحت إسرائيل قناة لنقل الأسلحة بين الولايات المتحدة وإيران لمواجهة التهديد العراقي المشترك، مع ترك الباب مفتوحاً لتحسين العلاقات معها في المستقبل.
وخلال فترة التسعينيات تضاءل التعاون بين إسرائيل وإيران، لكن خلال هذه الفترة قدم الرئيس الإيراني محمد خاتمي إشارات تصالحية لإسرائيل كجزء من سياسات التواصل تجاهها، بما في ذلك مقترحات تشير إلى أن إيران ستدعم حل الدولتين للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وفي تلك الفترة كانت إيران منشغلة بالقضايا الداخلية ولم تنظر الدولتان بعد إلى بعضهما بعضاً على أنهما منافسان مباشران.
وبعد القضاء على نظام صدام حسين في العراق و”طالبان” في أفغانستان وتغير موازين القوى في المنطقة، بدأت إيران وإسرائيل في اعتبار كل منهما تحدياً أمام النفوذ الإقليمي للآخر، ولا سيما بعد اختفاء التهديدات المشتركة لكل منهما، مما أدى إلى تصورات إقليمية واسعة النطاق حول تنامي النفوذ الإقليمي الإيراني، وبدأ الإسرائيليون ينظرون إلى إيران كمصدر لكل صراع إقليمي واجهوه كما تصوروا.
ويهدد تعزيز العلاقات الإيرانية مع الجماعات المسلحة مثل “حماس” و”حزب الله” الاستقرار في الدول المجاورة لإسرائيل، وكان وصول أحمدي نجاد إلى الحكم عام 2005 بخطاب شديد العدائية لإسرائيل سبباً في تفاقم المخاوف الإسرائيلية من إيران واعتبارها تهديداً للأمن الإسرائيلي، فضلاً عن سعي إيران المستمر إلى امتلاك القدرات النووية، وتعززت أيضاً وجهة نظر إيران تجاه إسرائيل كمنافس مباشر، وبدأ النظام الإيراني الساعي إلى التمدد والنفوذ باعتباره قوة صاعدة في الشرق الأوسط ينظر إلى إسرائيل باعتبارها عقبة أمام طموحاته ومشروعه نحو الهيمنة.
وإجمالاً يمكن القول إن التعاون بين إسرائيل وإيران ممكن طالما أن هناك تهديدات مشتركة تواجههما، وهنا تتسم العلاقات بينهم بالبراغماتية والتعاون وتختفى الأيديولوجية، لكن في حال انتفاء العدو المشترك فإن كل منهما تعتبر الأخرى تحدياً أمام مشروع النفوذ الإقليمي، ويتخذ التنافس بينهما على هيكل القوة في المنطقة شكل الصراع الإيديولوجي بينما هو صراع قوة.