عند قراءة المشهد الذي تمر به منطقة الشرق الأوسط والتداعيات الحاصلة نتيجة العملية العسكرية التي قامت بها حركة “حماس” على مستوطنات غلاف غزة والحرب المفتوحة التي أعلنتها تل أبيب على القطاع، سنجد انكشافاً تاماً وواضحاً للممارسات غير الإنسانية للقيادتين السياسية والعسكرية وحتى الشعبية الإسرائيلية، والكم الهائل من المجازر ضد الأطفال والنساء وتدمير البنى التحتية العائدة للشعب الفلسطيني التي لا تخص أي تنظيم أو ميليشيات أو تشكيل حزبي.
ولعل كل القراءات والمواقف تُجمع على أن من النتائج الأساس والواضحة التي ستشكل أبرز مخرجات هذه الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أن العالم سيكون أمام مرحلة جديدة لن يكون فيها الشرق الأوسط والعالم على الصورة التي كان عليها قبل هذا التاريخ، أي أن معادلات جديدة ومفاهيم مختلفة ستسيطر على مساحة العمل السياسي وتوازنات القوى والمعادلات السياسية والاستراتيجية والعلاقات الدولية.
وأمام ما يمكن أن يسمى إعادة إنتاج المعادلات على الساحة الدولية لا بد من التوقف عند المعادلات الإقليمية بكثير من التدقيق لأنها الساحة الأكثر تأثراً بالنتائج، وباعتبارها اللاعب الأساس في تركيب المعادلات الدولية وحدود وطبيعة العلاقات بين مراكز القرار في ما بينها، وبينها وبين القوى الإقليمية الطامحة إلى لعب دور ذي طابع دولي.
والمدخل لتلمس ما ستكون عليه هذه المعادلات قد يكون في البحث عن الأطراف والمشاريع المرشحة للخسارة في المعادلات الجديدة المتوقعة، بغض النظر إذا ما استطاعت الضغوط الدولية تحويل الهدنة الموقتة إلى وقف دائم لإطلاق النار، أو عادت تل أبيب واستأنفت عملياتها العسكرية في قطاع غزة، وهي معادلات تلاقت في بعضها مصالح متناقضين أو مختلفين وحتى متخاصمين واختلفت في بعضها الآخر، إلا أن الجميع سعى إلى إبقائها وضبطها تحت سقف عدم الذهاب إلى التصعيد أو المواجهة المفتوحة التي لا يمكن لأي منهم التكهن بالصورة التي ستكون عليها.
خروج بنيامين نتنياهو من السلطة ورئاسة الحكومة الإسرائيلية مع فريقه المتطرف والمتشدد، وإن لم يعد رهن القرار المرتبط باستمرار الحرب من عدمها، فإن هذا الفريق يرى أن وقف إطلاق النار سيشكل حبل المشنقة الذي سيلتف حول عنق طموحاتهم السياسية والسلطوية، وبالتالي فإن خيار استئناف الحرب يشكل المخرج وخشبة الخلاص لهم، ويساعد في تأجيل هذا المصير، في حين أن المجتمع الدولي وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية ستجد صعوبة في تأمين الغطاء لهذه السياسات، بخاصة أن الموقف الذي تبنّته إدارة البيت الأبيض الداعم للعملية العسكرية وعمليات القتل الواسعة للمدنيين قد يكون غير قادر على الاستمرار في تأمين الغطاء والدفاع عنه، لاعتبارات داخلية وانتخابية ودولية وشعبية وإنسانية.
لم يكن الموقف الذي اتخذه نتنياهو ووصفه مشروع التعديلات القضائية بأنه “شأن داخلي لا يحق لأي طرف أو أحد التدخل فيه” في الرد على توصية الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أشهر بتأجيل هذه التعديلات، والأخذ بعين الاعتبار مواقف ومخاوف الفريق المعارض لها مجرد موقف في مواجهة التوصية الأميركية، فهو لم يلتقط الإشارة الأميركية حول حجم المخاوف لدى البيت الأبيض والإدارة الأميركية من التداعيات التي ستضعف هذا الكيان، بحيث تكون واشنطن في مواجهة مأزق مزيد من التورط للحفاظ عليه من أخطار الانقسام ومؤشرات الحرب الداخلية.
وعلى رغم الصدمة والإرباك اللذين شكلتهما عملية “طوفان الأقصى” التي بدأتها “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ولم تقتصر تداعياتها فقط على تل أبيب بل هزت ارتداداتها أروقة الإدارة الأميركية، وفرض عليها التعامل مع تهديد أكثر جدية وأشد خطورة قد يطيح بالدور الذي رسمته هذه الإدارة لتل أبيب في منطقة الشرق الأوسط ومعادلاتها الاستراتيجية، وبالتالي أصبحت في مواجهة مباشرة مع هذه الأخطار والتهديدات، ليس دفاعاً عن إسرائيل وحسب بل دفاعاً عن مصالحها وقوة ردعها أيضاً.
هذه التطورات دفعت واشنطن إلى تأجيل خلافاتها وتبايناتها مع رئيس الحكومة نتنياهو من دون أن تتخلى عن موقفها الساعي إلى إحداث تغيير في هذه الحكومة وإبعاد رئيسها من السلطة، وهذه النقطة، أي إخراج نتنياهو من المشهد بعد فرض وقف لإطلاق النار، تشكل نقطة التقاء بين واشنطن والقيادة الإيرانية كل من الزاوية التي تخدم مصالحه الاستراتيجية، بخاصة أن طهران ترى في هذا الخروج مدخلاً لتحقيق كثير من النقاط على المستوى الإقليمي، لعل أبرزها تكريس الهزيمة الإسرائيلية التي تعني إنهاء التهديد الدائم الذي شكل محور مواقف نتنياهو الأساس على المستوى الإقليمي، ومن ثم إنهاء الأهداف التي سعى إليها نتنياهو من وراء توسيع دائرة تطبيع العلاقات مع الدول الإقليمية وخصوصاً السعودية، وما يعنيه ذلك من إمكان توظيفه لمحاصرة إيران وعرقلة مساعيها إلى ترميم علاقاتها مع هذه الدول.
ولعل الأداء الأميركي في مواجهة التصرفات التي تقوم بها جماعة الحوثي على مضيق باب المندب ومياه البحر الأحمر والتروي في تصعيد خطواتها وإجراءاتها يحمل على الاعتقاد أن هذا الأداء، بعيداً من الاتهام بالتواطؤ أو التنسيق، قد يصب في سياق الموقف الأميركي بتوجيه رسالة إلى نتنياهو بضرورة الخروج من الصندوق الذي يتحكم بقراراته وسياساته، كما أنها قد لا تكون معنية بالتعامل مع التهديد الحوثي طالما أنه بقي في إطار استهداف ما هو إسرائيلي ولن يهدد طرق التجارة الدولية وأمن الطاقة، وإن الهم الذي يشغلها هو التفكير في ترميم معادلات مصالحها وقوة ردعها في هذا الإقليم في اليوم التالي لإعلان وقف إطلاق النار، فضلاً عن المعادلات السياسية الجديدة التي قد يكون عليها التعامل معها.
ويبدو أن واشنطن وطهران لا تسيران فقط على حافة الهاوية بل على حد السكين لهذه الهاوية، فالمؤشرات التي قدمتها طهران على عدم وجود أي مشروع لديها ولدى المحور الذي تقوده لاقتلاع وإزالة إسرائيل، قد تشكل مصدر طمأنة لواشنطن على وجود هذا الكيان، لكن ذلك لا ينفي أو يلغي القلق الأميركي على الدور الذي كانت تقوم به تل أبيب، وبالتالي باتت مجبرة على العودة لرفع مستوى انخراطها للحفاظ موقعها ودورها في الإمساك بالمعادلات الدولية.
المعالجة الإيرانية لمصادر القلق الأميركي يبدو أنها اقتصرت على الجانب المتعلق بمستقبل إسرائيل ووجودها والذي تكشف عنه كل التصريحات والمواقف الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم المرشد الأعلى، لكنه لم ينسحب على مناطق انتشارها في العراق وسوريا وما تشهده من استهدافات تقوم بها فصائل وميليشيات موالية لإيران، وهذا المستوى من التصعيد يتواطأ الطرفان على عدم ربطه بما يحدث في قطاع غزة، بل بالمخاوف الإيرانية من تنامي الوجود العسكري الأميركي في منطقة غرب آسيا، والذي يتعارض مع رؤية واستراتيجية المرشد الأعلى بإخراج الأميركي من هذه المنطقة.