لم تكن “سارة” الفتاة الأيرلندية تبالغ حين أبدت دهشتها من هذا اليقين الذي يجعل أهل غزة يتحمّلون كل هذه الآلام. تساءلت الفتاة- في مقطع مصوّر متداول بغزارة- عن “الإسلام” بوصفه الإطار الأعمق الذي يتكئ عليه المكلومون الفلسطينيون، فيمنحهم صبرًا على أذى فاق كل ما طال غيرهم في التاريخ الحديث والمعاصر كله.
وضعت الفتاة يدها على الجوهر أو العلّة البعيدة لصمود نراه في غزة، وهي علة يتشارك فيها مسيحيو فلسطين أيضًا، الذين يدركون “آلام المسيح” ليس بوصفها “مسألة تاريخية” أو “رمزية”، مثلما يدركها أوروبيون، إنما هي لا تزال جارية، يكاد كل منهم أن يشعر بها، وإلا ما قال أحد القساوسة الكبار ردًا على استهداف العدوان الإسرائيلي للمساجد: إذا دمّروا المساجد كلها، فسنفتح الكنائس ليُطلق الأذان من مناراتها، داعيًا المسلمين إلى الصلوات الخمس.
الحاجة إلى اليقين
لا أتحدّث هنا عن العمق الديني الذي يحضر بقوة كدافع للصبر والتحمّل، في أغلب خطابات المقاومة، لاسيما “حركة حماس” و”الجهاد الإسلامي”، إنما ذلك الذي يذوب في المجال الفلسطيني العام، ويُترجم فيما يتلفظ به الناس حين يرون أهلهم قد سقطوا شهداء، أو أصيبوا بجروح خطيرة، أو هُدمت بيوتهم فتشردوا، أو وهم يتحدثون عن عدم توافر حدّ الكفاية، أو حتى الكفاف في الغذاء والدواء، فضلًا على الإيواء والكساء في هذا الشتاء الذي ينذر ببرودة شديدة.
ومن الطبيعي أن يلجأ الناس في الشدائد إلى الدين ليشدّ أزرهم، ويحمي نفوسهم من الانهيار أو الاستسلام للقهر الدنيوي البغيض. فسواء كان الشخص يحمل السلاح ليقاتل عدوه أو يتلقّى ضربات هذا العدو، فهو في حاجة إلى يقين، لا يعلو شيءٌ على المعتقد الديني، كي يضمن وجوده واستمراره.
ولا يغفُل الفلسطينيون، هنا، عن النزعة التوراتية الزاعقة التي يضفيها الإسرائيليون على الحرب الراهنة، مثلما رأينا في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو وجود الحاخامات بدعواتهم ونصائحهم، بل بتحريضهم، في قلب المعركة.
الالتفاف على الظروف القاسية
في الحقيقة، ليس المعتقد الديني وحده الذي يقف وراء صمود الفلسطينيين الأسطوري، إنما هناك علل أخرى، لا يقف عليها، ويفهم آثارها، إلا من قرأ بإمعان يوميات العذاب التي يحياها الفلسطينيون تحت الاحتلال منذ النكبة وحتى انطلاق “طوفان الأقصى”.
فكثيرون منهم مرّوا بتجارب قاسية، بدءًا من هؤلاء الذين عاشوا تجربة التهجير الأولى في عام النكبة، وحتى أطفال صغار ينصتون ليل نهار إلى حكايات الجَدّات والأجداد عن صقيع الشتات وحَيرته ووجع الشوق الجارف إلى الوطن.
بات الفلسطينيون يدركون أن أيّ انكسار أو تهاون أو فزع- يدفعهم إلى هروب أو استسلام- ستكون له عواقب وخيمة عليهم، أكثر إيلامًا حتى من القصف المتواصل على رؤوسهم، رغم غزارته وضراوته، واستهدافه البشر والحجر، والأخضر واليابس. فالصبر على النار والدم المؤقت – حتى لو طال أمد الحرب أكثر من توقعاتهم- أهون من الصبر على الغربة والاغتراب، حين يفقدون أرضهم، ويضيعون في بلاد الناس على غرار ما جرى لهم سابقًا.
تعلّم الفلسطينيون الكثير من الأساليب والحيل التي تساعدهم في الالتفاف على الظروف القاسية التي تداهمهم، من كثرة ما تعرّضوا له من ممارسات قسرية، بل ودموية، للاحتلال الإسرائيلي على مدار سنوات طويلة.
ونظرًا لأنها ممارسات لا تنقطع، صار الشعب الفلسطيني قادرًا على تحملها، فطالما دقّت على رؤوسهم طبول الحرب، وطالما رأوا القتل والخراب والسجن، وطالما عاشوا في ظل حصار محكم يكاد يعدّ عليهم أنفاسهم، بل ظهر أخيرًا أنه يعد عليهم “السعرات الحرارية” التي يمنحها لهم الطعامُ والشراب المسموح بعبوره إليهم.
فمشاهد الدم والدخان والركام التي نراها في العدوان الحالي على غزة، تكررت في كل حروب إسرائيل السابقة على القطاع، بما يجعل ما يجري مع “طوفان الأقصى”- في نظر أغلب أهل غزة- ليس أكثر من جرعة مكثفة جدًا، في اتساعها وعمقها وطول مدتها، لكنها لا تختلف عن سابقاتها في تكتيكات الجيش الإسرائيلي وتصرفاته المفرطة في التوحّش.
حاضنة شعبية للمقاومة
لا أتحدث هنا عن تكيُّف الفلسطينيين عمومًا، والغزيين خصوصًا، مع العذاب والهوان المتعمد، إنما عن قدرتهم الفائقة والعجيبة في آن على إدراك مرامي الاحتلال وأهدافه جراء ما يصرّ على فعله بانتظام، ويتأكد كل يوم أنه إستراتيجية ثابتة له، معروضة في كتاب مفتوح، ولا تتغير بتبدّل الحكومات في تل أبيب.
وكذلك عن قدرتهم على تفريغ هذا الفعل من معناه، وإحباط أهدافه، وعلى رأسها إخماد الصوت الفلسطيني إلى الأبد، عملًا بالافتراض الخاطئ الذي بنت عليه إسرائيل وجودَها في هذا المكان، وهو: “أن اليهود شعب بلا أرض، جاؤُوا إلى أرض بلا شعب”.
يزيد على كل هذا أنه في هذه المرة، أكثر من سابقاتها، أدرك المدنيون الفلسطينيون أن استهدافهم يرمي إلى كشف ظهر المقاومة، وكسر إرادتها، بإظهارها وكأنها غير معنية بما يجري لحاضنتها الشعبية، أو يرمي إلى دفع هذه الحاضنة إلى الكفر بالمقاومين، وربما إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال التمرّد عليهم، أو حتى خيانتهم.
فهناك تصوّر يطبّقه الجيش الإسرائيلي، منذ حرب 2006 ضدّ حزب الله، يقوم على الإفراط في إيذاء المدنيين للضغط على المقاومين. وقد رأينا في الأيام الأخيرة مسؤولين أميركيين يدعون المقاومة الفلسطينية إلى الاستسلام؛ إنقاذًا للمدنيين، وتلقفت بعض الأصوات والأقلام المتساوقة مع الاحتلال هذه الدعوة، وراحت تكررها، وتلحّ في طلبها.
ورغم الأذى الشديد للمدنيين في غزة، فإن أغلبهم يتفهمون التراكمات الطويلة التي سبقت ما جرى يوم السابع من أكتوبر 2023، ويرون أنها تشكل مقدمات كان لابد أن تدفع إلى النتيجة التي جرت، ولا ينظرون إلى الأمر، على أنه منبتّ الصلة بما سبقه، كما يفعل بعض المتعجّلين أو المغرضين.
وهناك سبب يتعلق بما تبديه المقاومة من بسالة، وما تسطره من نجاح مبهر في ميدان القتال، جعل الناس يؤمنون بمسلكها، ويشدون على يدها، ويرابطون حولها؛ كي تثبُت وتقاتل وترد العدوان خاسرًا.
فمنذ معركة الكرامة عام 1970، والفلسطينيون لم يحققوا نصرًا على الجيش الإسرائيلي، يتجاوز مجرد التحدي والتصدي. وكثيرون منهم يؤمنون بأن الخسارة الإستراتيجية التي تُمنى بها إسرائيل حاليًا، ستكون نقطة تحول كبرى في الصراع، ودفعة قوية نحو تحقيق دولة فلسطينية مستقلة طال انتظارها، ودُفعت من أجلها أثمان باهظة.
إنّ المدنيين- في غزة والضفة الغربية على السواء- يعرفون حجم التضحيات التي تبذلها المقاومة، بالعَرق والدم، ويؤمنون بإخلاصها لقضية بلادهم، ومن ثم فإن المروءة تفرض عليهم أن يتحملوا الأذى معها، لاسيما أنهم يعوّلون عليها في الثأر لهم، والأهم في تقريبهم من نيل حقوقهم المهضومة.
مواجهة الانهيار والاقتلاع
ومن أسباب صمود المدنيين الفلسطينيين أيضًا، أنهم يتابعون جيدًا كيف قادت تضحياتهم الكبرى إلى إعادة قضيتهم عفية على الساحة الدولية، بعد أن كانت إسرائيل قد نجحت في أن تهيل عليها أكوامًا من التراب، وتخرجها من المعادلات السياسية في المنطقة، بالانتقال من قاعدة “الأرض مقابل السلام” إلى “السلام مقابل السلام”.
وهناك سبب آخر- يبدو مهمًا جدًا بمعيار النفسية الفلسطينية- وهو أنها المرّة الأولى التي يرى فيها الفلسطينيون إسرائيليين يضطرون إلى ترك بيوتهم والإقامة في خيام لاجئين؛ بسبب ضربات المقاومة، ليذوقوا بعض ما يفعلونه بالشعب الفلسطيني منذ خمسة وسبعين عامًا. ورغم اختلاف الحالتين فإن الفلسطينيين يرضيهم، الآن على الأقل، أن يمسّ القوم قَرْح طالما مسّهم سنوات طويلة.
تتعدّد الأسباب والدوافع لصمود الفلسطينيين، وبعضها مستقر في أعماق نفوسهم، ومنها ما ظهر في العدوان الحالي عليهم، لكنها- في كل الأحوال- جديرة بالنظر والاعتبار، بل هي جديرة بأن تكون واحدة من أنصع الأمثلة على قدرة شعب على التصدي والتحدي ومواجهة كل عوامل الانهيار والاقتلاع.