رداً على الهجوم المروع الذي شنته “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) استخدمت إسرائيل قوة ساحقة، وفي أعقاب الغارة الإرهابية الدموية، تعهد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت “محو حماس من على وجه الأرض”. فاستدعى الجيش الإسرائيلي أكثر من 350 ألف جندي احتياط وشن هجمات على قطاع غزة بهدف القضاء على الجناحين السياسي والعسكري لحركة “حماس”. ومنذ ذلك الحين، قتلت القوات الإسرائيلية آلاف الفلسطينيين، من بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، مما زاد من حجم المعاناة أكثر فأكثر.
وليس من المستغرب على الإطلاق أن تواجه إسرائيل عنف “حماس” بعنف مماثل، نظراً إلى التفوق العسكري التقليدي الذي تتمتع به المؤسسة العسكرية الإسرائيلية مقارنة مع خصمها. فإسرائيل دأبت منذ فترة طويلة على مواجهة الإرهاب الفلسطيني بالقوة المفرطة. في الواقع، يعتبر الجيش الإسرائيلي أقوى وأكبر حجماً من “حماس” وغيرها من الجماعات الإرهابية الفلسطينية وهو مزود بموارد أفضل من تلك المتاحة لها، ولا شك في أن المخططين الإسرائيليين يدركون أن خصومهم لا يستطيعون مجاراة جيش الدفاع الإسرائيلي أو منافسته.
مع ذلك، فإن المزايا العسكرية التي تتمتع بها إسرائيل تتضاءل. لقد أثبتت “حماس” أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، هزيمتها بالقوة العسكرية، إذ إن التكنولوجيا أدت إلى تقليص الفجوة بين الدول والإرهابيين، مما سمح للجماعات غير الحكومية [غير الخاضعة للسلطات المركزية] بالتصرف بطرق تحاكي تلك التي تعمل بها الدول، فأصبحت قدرة “حماس” توازي قدرة إسرائيل على شن هجمات متطورة ونشر الدعاية، إضافة إلى ذلك، لعبت التكتيكات القديمة أيضاً، على غرار بناء دهاليز من الأنفاق تحت غزة، دوراً في مساعدة الحركة على صد خصم أكثر قوة، واكتسبت “حماس” نفوذاً إضافياً من خلال أسر نحو 240 رهينة. في الحقيقة، لطالما كافحت الدول من أجل هزيمة الجماعات الإرهابية، فإن الحرب بين إسرائيل و”حماس” تظهر لماذا أصبح القيام بذلك أكثر صعوبة.
في نظر إسرائيل، ربما كان الجانب الأكثر إزعاجاً في هذا الوضع غير المتكافئ لموازين القوة هو احتمال أن يكون جيشها قد خدم مصالح “حماس” مباشرة حينما ضرب غزة بقوة ساحقة. لقد تأسست “حماس” بهدف القضاء على إسرائيل، بيد أنها غير قادرة على إتمام هذه المهمة، لذا فهي تستخدم الإرهاب لكي تجذب الاهتمام والحلفاء. كان المقصود من إراقة الدماء في السابع من أكتوبر استفزاز المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ودفعها إلى الرد بشكل مبالغ فيه، مما قد يقوض التعاطف الدولي مع إسرائيل، ويؤجج انتفاضة في الضفة الغربية والقدس، ويحشد الدعم لـ”حماس”، وبخاصة من إيران وجماعة “حزب الله” اللبنانية المسلحة. وقد استغلت “حماس” مقتل المدنيين الإسرائيليين والفلسطينيين لتعزيز أجندتها السياسية. وتمكنت من تحقيق النجاح في نواح عديدة. لذا، فإن أفضل وسيلة يمكن أن تلجأ إليها إسرائيل من أجل إلحاق الهزيمة بـ”حماس” تتلخص في أن تستعيد تل أبيب مكانتها الأخلاقية الرفيعة، وذلك من خلال تخفيف استخدام القوة وتوفير مزيد من الحماية للمدنيين الفلسطينيين. سيكون من الصعب على القادة الإسرائيليين أن يمارسوا ضبط النفس لأن ناخبيهم غاضبون، بيد أن القيام بذلك هو السبيل الوحيد الذي تستطيع إسرائيل من خلاله تقويض قدرة “حماس” على حشد الدعم والتحريض على مزيد من العنف.
تدمير مبدع وخلاق
لم تعد الدول تحتكر الموارد اللازمة لإبراز القوة ونشر السرديات [المتماشية مع مصالحها والمؤثرة على الرأي العام]، لقد طرأت تطورات تكنولوجية متعددة أفادت الجماعات الإرهابية بشكل غير متناسب. في الواقع، يمكن عزو الإرهاب الحديث إلى اختراع الديناميت عام 1867. بالاسترجاع، كانت المقذوفات المعتمدة على البارود ثقيلة وتستلزم تعاملاً دقيقاً، وهي تشمل القنابل اليدوية في القرن الـ17 أو قنابل أورسيني [عبوات ناسفة تلقى يدوياً صممها فيليس أورسيني الثوري القومي الإيطالي] والمتفجرات الشائكة [قنابل تحتوي على مسامير أو شظايا بارزة تحدث أضراراً إضافية عند تفجيرها] التي استخدمها الفوضويون في القرن الـ19. أما الديناميت، فكان من السهل إخفاؤه تحت الملابس وإشعاله بسرعة وإلقاؤه على الهدف. وأدى ذلك إلى ظهور إرهاب تنفذه مجموعات صغيرة وأفراد، مثلما حصل في عملية اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني بالديناميت عام 1881.
ثم جاءت بندقية الكلاشينكوف الهجومية، المعروفة أيضاً باسم “أي كاي 47” AK-47، لتصبح الهبة التكنولوجية الكبرى التالية بالنسبة إلى الإرهابيين. كانت الأسلحة النارية موجودة منذ قرون ولكنها كانت باهظة الثمن، وصعبة الصيانة، وأكثر فاعلية في أيدي المتخصصين المدربين. استخدمت القوى الاستعمارية الأوروبية البنادق الآلية الأولى، بما في ذلك المدافع الرشاشة “غاتلينغ” و”مكسيم”، لإلحاق دمار واسع النطاق، كما حدث عندما قتل الجنود البريطانيون المئات من محاربي الزولو عام 1879 في معركة “أولوندي” Ulundi في ما يعرف اليوم بجنوب أفريقيا. وقد استعملت قوات الأمن الخاصة والقوات الفيدرالية والقوات الحكومية وإدارات الشرطة نفس الأسلحة المذكورة لقمع الاحتجاجات العمالية. ففي عام 1892 مثلاً استخدم الحرس الوطني في ولاية بنسلفانيا أسلحة غاتلينغ لإنهاء احتجاج في شركة “كارنيغي للفولاذ”.
وهكذا تغيرت المعادلة لصالح الجهات الفاعلة غير الحكومية بعد أن أبصر اختراع بندقية “أي كاي 47” النور في الاتحاد السوفياتي عام 1947. كانت البندقية سهلة الحمل والاستعمال، تزن نحو أربعة كيلوغرامات ونصف. ويعتقد اليوم أنه كان السلاح الناري الأكثر استخداماً في التاريخ، وقد ذاع صيتها باعتبارها رمزاً يمثل الإرهابيين في جميع أنحاء العالم. غالباً ما كان زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن يضع خلفه بندقية كلاشينكوف من طراز أحدث خلال خطاباته المصورة. كذلك، يحمل علم “حزب الله” صورة بندقية هجومية مشابهة لبندقية “أي كاي 47”. ويمكن للأرقام والإحصائيات أن تعطينا صورة أوضح: بين عامي 1775 و1945، في نحو 25 في المئة من الحالات، انتصر المتمردون على جيوش الدول. ومنذ عام 1945، قفز هذا الرقم إلى نحو 40 في المئة. وفي الواقع، يمكن أن يعزى هذا التغيير في جزء كبير منه إلى ظهور بندقية كلاشينكوف وانتشارها عالمياً.
يمكن عزو الإرهاب الحديث إلى اختراع الديناميت في عام 1867
يبدو أن مقاتلي “حماس” استخدموا بنادق “أي كاي 47” الصينية والسوفياتية القديمة في السابع من أكتوبر لاقتحام المواقع العسكرية الإسرائيلية، وقتل المدنيين، واحتجاز الرهائن، لكنهم في الوقت نفسه لجأوا إلى بعض التكتيكات والتقنيات الجديدة نسبياً. بدأت الحركة هجومها بإطلاق آلاف الصواريخ من أجل إنهاك منظومة الدفاع الصاروخي الإسرائيلي “القبة الحديدية”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن حركة “حماس” وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني، وهي جماعة إرهابية أخرى مقرها غزة، قد هربتا صواريخ من إيران، وهما قادرتان أيضاً على تصنيع بعض المتفجرات والصواريخ من القطع المتاحة للاستهلاك التجاري. في وقت سابق، كان مدى صواريخ القسام التي صنعتها “حماس” نحو عام 2005 يصل إلى 15 كيلومتراً تقريباً. أما الصواريخ المستخدمة في السابع من أكتوبر، فمن الممكن أن تقطع مسافة تتعدى 24 كيلومتراً. وكما هي الحال مع الأوكرانيين، الذين نجحوا في استعمال المسيرات التجارية لمهاجمة الدبابات والقوات، أظهرت حركتا “حماس” والجهاد الإسلامي في فلسطين إبداعاً في بناء أنظمة الأسلحة الخاصة بهما. ومن أجل تجنب الدفاعات الجوية الإسرائيلية، أطلقت “حماس” العشرات من الطائرات المسيرة الانتحارية التي تحمل اسم “الزواري” [على اسم المهندس التونسي محمد الزواري الذي أشرف على بناء المسيرات في “حماس” واغتيل عام 2016]، وهي أسلحة ثابتة الجناحين صنعتها “حماس” بمواد متوافرة في غزة. بطريقة موازية، استعانت الحركة بطائرات تجارية صغيرة من دون طيار لإسقاط قنابل يدوية على أبراج المراقبة الإسرائيلية وعلى الأسلحة الرشاشة التي تشغل عن بعد. هذه الطائرات المسيرة يمكن شراؤها عبر الإنترنت، وهي قادرة على تجنب أنظمة الرادار الإسرائيلية عن طريق التحليق ببطء وعلى مقربة من الأرض. إذاً، حقق هجوم “حماس” نجاحاً لأنه استهدف الدفاعات الإسرائيلية بكمية هائلة من الأسلحة المنخفضة الثمن التي يسهل الوصول إليها.
اقرأ المزيد
هل تمهد الهدنة بين إسرائيل و”حماس” للوصول إلى حل سياسي؟
داخل إمبراطورية “حماس” المالية
فضائل ضبط النفس في مواجهة الإرهاب
هدنة غزة تكشف “هيروشيما جديدة”
طروحات لما بعد “حماس” في غزة
واستطراداً، فإن ما أفاد الإرهابيين أيضاً كان الثورة في تكنولوجيا المعلومات، إذ سمحت لهم بتضخيم آثار أعمال العنف التي يمارسونها. في السبعينيات من القرن الـ20، سهل اختراع القنوات الفضائية تصاعد الإرهاب العالمي. وعلى مدى الأعوام الـ50 الماضية، تشير “قاعدة بيانات الإرهاب العالمي”، إلى أن أكبر عدد من الهجمات الإرهابية في مناطق أميركا الشمالية وأوروبا الغربية مجتمعة قد سجل عام 1979. لقد سمحت القنوات الفضائية للإرهابيين بنشر قضيتهم، وجذب الدعم والمجندين. بالاسترجاع، فإن منظمة “أيلول الأسود”، وهي جماعة إرهابية مرتبطة بمنظمة التحرير الفلسطينية، استغلت القنوات الفضائية عندما اختطفت وقتلت 11 رياضياً إسرائيلياً في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1972 في ميونيخ أمام 800 مليون مشاهد خلف شاشات التلفزيون، فوصل هذا المشهد إلى واحد من أصل خمسة أشخاص من سكان الأرض تقريباً. هذه المجزرة سلطت الضوء على موضوع القضية الوطنية الفلسطينية وأدت إلى اندلاع هجمات مشابهة، على الرغم من أن إسرائيل كانت قد قضت تماماً على منظمة “أيلول الأسود” بعد عمليات القتل في ميونيخ.
بطريقة موازية، كان لوسائل التواصل الاجتماعي تأثير مماثل على الإرهاب. ففي الوقت الحالي، أصبحت “حماس” وإسرائيل متساويتين في قدرتهما على عرض رواياتهما الخاصة حول الحرب. تستخدم الحركة تطبيق المراسلة “تليغرام” Telegram لتجنيد أعضاء جدد ونشر معلومات مضللة. وحتى بعد أن قطعت إسرائيل الكهرباء وأوقفت الإنترنت في غزة، تمكنت الحركة من نشر المعلومات المضللة على تطبيقات المراسلة ووسائل التواصل الاجتماعي من خلال الاعتماد على جيش عالمي من المتعاطفين. وقد يكون مثل هذا التعتيم قد أضر بإسرائيل في الغالب، لأنه جعل من الصعب على المؤسسات الإعلامية الموثوقة التأكد من الحقائق على الأرض. ثمة كمية كبيرة من المعلومات على الإنترنت حول الحرب بين إسرائيل و”حماس” يصعب جمعها والتحقق منها. وفي الوقت نفسه، يسهم كثير من المراقبين عن غير قصد في الترويج للأكاذيب، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية ذات النوايا الحسنة، ووسائل الإعلام، ومجموعات التقصي من المصادر المفتوحة [المعلومات وأدوات البحث المتاحة للعموم على الإنترنت] التي تبذل كل جهد ممكن من أجل مقارنة مقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية الملتقطة في الحرب مع وسائط متعددة من مصادر أخرى، مستعينة بصور الأقمار الصناعية والخرائط وأدوات تحديد الموقع الجغرافي وعمليات البحث العكسي عن الصور. في أواخر أكتوبر، على سبيل المثال، اعترفت صحيفة “نيويورك تايمز” بأن تقاريرها الأولية عن انفجار وقع في أحد المستشفيات في مدينة غزة قبل بضعة أيام “اعتمدت بشكل كبير على ادعاءات مسؤولي حكومة حماس” بأن “غارة جوية إسرائيلية كانت السبب في ذلك”، ثم أفادت الحكومات الأميركية والكندية والفرنسية في وقت لاحق بأن الأدلة تشير إلى أن ما أدى إلى الانفجار كان صاروخاً ضالاً أطلق من داخل غزة.
رؤية ضيقة
الأنفاق أيضاً تمنح “حماس” أفضلية غير متكافئة. عام 2021، زعمت الحركة أنها حفرت أكثر من 480 كيلومتراً من الأنفاق، وهي استراتيجية استخدمتها منذ آلاف السنين مجموعات تواجه أعداء أكثر قوة أو أشد تحصيناً، مثلما فعل اليهود ضد الرومان في يهودا في القرن الأول، وقوات الاتحاد الفيدرالي ضد الكونفيدراليين في حصار “بيترسبورغ” خلال الحرب الأهلية الأميركية عام 1864، والجنود اليابانيون ضد مشاة البحرية الأميركية في “بيليليو” عام 1944، والفيتكونغ ضد القوات الأميركية في حرب فيتنام، وأخيراً، تنظيم “القاعدة” و”داعش” ضد القوات الأميركية و”حزب الله” ضد الجيش الإسرائيلي. يمكن استخدام الأنفاق لتهريب البضائع وبدء العمليات العسكرية وتخزين المواد الغذائية والأسلحة والمقاتلين. في الواقع، إن مقاتلاً واحداً يعرف خريطة النفق وتفاصيله قادر على صد العشرات من جنود العدو الذين يتلمسون طريقهم في الظلام.
واستكمالاً، تسمح الأنفاق لمقاتلي “حماس” بالتحرك عبر المدينة حتى عندما تسيطر القوات الإسرائيلية على الشوارع في الأعلى، مما يسهل على عناصر “حماس” نصب الأكمنة لهذه القوات. وعند إطلاق النار في نفق ما، يكون احتمال تعرض مستخدم السلاح للإصابة أكبر من احتمال إصابة الهدف، لأن الرصاص قد يرتد أو ينتج موجات صوتية وصدمات قد تسبب ارتجاجات دماغية. كذلك، فإن نظارات الرؤية الليلية لا تعمل جيداً في الأنفاق بسبب عدم وجود إضاءة محيطة كافية، ولا يستطيع الجنود الاعتماد على التواصل بإشارات اليد أو الذراع في الظلام الدامس. وبطريقة موازية، يصعب على القادة التواصل مع الجنود في الأنفاق بسبب ضعف إشارات أجهزة الاتصال.
ومن الممكن أن تحاول الجيوش المجهزة جيداً الاستعانة بالأدوات الروبوتية لمحاربة الجماعات التي تحفر الأنفاق. فالطائرات من دون طيار قادرة على رسم خريطة للأنفاق باستخدام كاميرات وأجهزة استشعار عالية الدقة، فيما تستطيع الروبوتات الأرضية غير المأهولة الاستكشاف واختبار جودة الهواء وقياس المسافات ونقل الإمدادات وحمل الأسلحة وحماية الجنود، لكن لا يمكن لهذه الأدوات أن تذهب إلى أبعد من هذا الحد، إذ إن الأرضيات غير المستوية والأسطح الرطبة والعقبات غير المتوقعة مثل أسلاك التعثر المفخخة أو حتى الصخور قد تسقط الروبوتات أرضاً وتعطلها. وفي المساحات الضيقة، تصبح الروبوتات المعطلة عقبات بحد ذاتها.
طائرات من دون طيار تحلق في مدينة غزة، ديسمبر (كانون الأول) 2022 (مجدي فتحي/نور فوتو/غيتي)
طائرات من دون طيار تحلق في مدينة غزة، ديسمبر (كانون الأول) 2022 (غيتي)
واستطراداً، تستطيع إسرائيل أن تستخدم قنابل ضخمة لتدمير الأنفاق، لكن القيام بذلك من شأنه أن يقتل آلافاً آخرين من المدنيين في هذه العملية، وهذا لن يؤدي إلا إلى تعريض البلاد إلى مزيد من الانتقادات الدولية وتعزيز رواية “حماس” بأن جيش الدفاع الإسرائيلي يقتل الأبرياء عمداً. وحتى لو نجحت العملية العسكرية، فإن الكلفة السياسية ستزيد من عزلة إسرائيل وتدفع مزيداً من الناس إلى حمل السلاح ضدها.
والجدير بالذكر أن أهم ميزة غير متكافئة تمتلكها “حماس” هي ميزة استراتيجية، وقد تمثلت في استغلالها لرد فعل تل أبيب على هجومها. وبما أن الهدف من هجومها كان استفزاز إسرائيل ودفعها إلى استجابة مبالغ فيها تؤدي إلى نتائج عكسية، فإن الرد العنيف من جانب جيش الدفاع الإسرائيلي أدى إلى إثارة الرأي العام في المنطقة ضد إسرائيل وهذا بالتحديد ما أرادته “حماس”. في السنوات الأخيرة، كانت إسرائيل قد تمكنت من إقناع عدد من الحكومات العربية بوضع المخاوف في شأن الفلسطينيين جانباً وتطبيع العلاقات الثنائية. أرادت “حماس” حسر هذه الموجة أو قلب مسار هذه الخطوات، وقد نجحت في ذلك حتى الآن.
وببساطة، وقعت إسرائيل في الشرك، فردت على هجوم “حماس” بالقمع العنيف، وهو أسلوب شائع ولكنه نادراً ما يكون ناجحاً في مكافحة الإرهاب ويعمل بشكل أفضل عندما يكون من الممكن تمييز أعضاء الجماعات الإرهابية وفصلهم عن السكان المدنيين، وهي مهمة مستحيلة في غزة. وفقاً لـ”حماس”، قتلت إسرائيل أكثر من 11 ألف شخص في القطاع في غضون بضعة أسابيع بعد هجوم السابع من أكتوبر. ومع كل وفاة في صفوف المدنيين، تثير إسرائيل موجة غضب وانتقادات عالمية تزيد من صعوبة هزيمة “حماس” وحماية المواطنين الإسرائيليين.
المضي قدماً وضبط النفس
يمكن لإسرائيل أن تحقق بعض المكاسب ضد “حماس” من خلال فرض مراقبة أفضل، ودفاعات أقوى، واستخدام مزيد من التقنيات المتقدمة مثل الاستهداف القائم على الذكاء الاصطناعي، والقدرات المضادة للمسيرات، وصواريخ القبة الحديدية الاعتراضية. لم تعد “حماس” تتمتع بعنصر المفاجأة. وما لم ينضم إليها “حزب الله”، فإن قدرتها على إبراز قوتها قد بلغت ذروتها. ستكون حرب الأنفاق بطيئة ومكلفة وصعبة للغاية بالنسبة إلى إسرائيل، لكن “حماس” لا تستطيع الفوز عن طريق الاختباء إلى أجل غير مسمى في الظلام. علاوة على ذلك، تضررت قدرة “حماس” على تنسيق العمليات وتنظيمها بسبب إيقاف خدمات الإنترنت والهواتف الخلوية والخطوط الأرضية في غزة. وهكذا، فإن إسرائيل تمنع قوات الحركة من التنسيق مع بعضها بسهولة، وجمع المعلومات الاستخباراتية، والتواصل مع القادة السياسيين في لبنان. وعليها أن تستمر في عزل “حماس” بهذه الطريقة.
لكن الأهم من ذلك هو أن إسرائيل تحتاج إلى مواجهة التعبئة السياسية التي تقوم بها “حماس”، أي قطع قدرتها على جذب الاهتمام والمجندين والحلفاء. وقد تنطوي هذه المهمة على استخدام القوة بشكل حذر واستعادة المكانة الأخلاقية العالية التي كانت تتمتع بها إسرائيل مباشرة بعد تعرضها للهجوم، لكنها سرعان ما خسرتها بسبب حملة قصف متهورة أدت إلى مقتل “عدد كبير جداً” من المدنيين الفلسطينيين، على حد تعبير وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن. ويتعين على إسرائيل، على سبيل المثال، أن تعبر بوضوح أن أعداءها هم مقاتلو “حماس”، لا المدنيين الفلسطينيين. والجدير بالذكر أن إيذاء هؤلاء المدنيين أمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية وغالباً ما يكون غير قانوني، ويؤدي إلى نتائج عكسية من الناحية الاستراتيجية (واقتباساً للعبارة المنسوبة في كثير من الأحيان إلى تاليران، وزير خارجية نابليون، فإن قتل المدنيين في حرب ضد الإرهابيين هو أسوأ من جريمة، إنه خطأ). وبعد أسابيع من الضغط من إدارة بايدن، وافقت إسرائيل في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) على فتح ما تسميه “ممراً إنسانياً” لمدة أربع ساعات كل يوم حتى يتمكن المدنيون من الفرار من منطقة الحرب إلى الجنوب في غزة، مما يتيح أيضاً للجهات الفاعلة الدولية توفير الغذاء والماء والدواء لأولئك المحاصرين. ومن الواضح أن “حماس” وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وغيرهما من العصابات المحتجزة للرهائن لا تتأثر أو تبدي اهتماماً بتجويع المدنيين الفلسطينيين، ولكن يجب على إسرائيل أن تهتم لذلك.
إضافة إلى ذلك، من المفترض أن تمتنع إسرائيل عن دفع السلطة الفلسطينية إلى دعم “حماس”. وكما كتب الخبير في شؤون الإرهاب دانييل بايمان في “فورين أفيرز”، فإن إسرائيل تحتاج إلى تجنب إثارة الغضب في الضفة الغربية، وردع المستوطنين عن مهاجمة الفلسطينيين ومعاقبة من يفعل ذلك. وبطريقة موازية، يتعين على إسرائيل أن تحافظ على تدفق عائدات الضرائب والجمارك إلى السلطة الفلسطينية، التي قمعت المتعاطفين مع “حماس” في الضفة الغربية ومنعتهم من ارتكاب أعمال الشغب.
في الواقع، ليس أمام إسرائيل سوى طرق قليلة للقضاء على المزايا المنبثقة من عدم التكافؤ التي تتمتع بها “حماس”. فالبلاد لا تستطيع إلغاء التغيرات التكنولوجية التي طرأت أو وقف الرسائل المؤيدة لـ”حماس” على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كامل، لكنها تمتلك القدرة على الرد على هجوم “حماس” الإرهابي بشكل استراتيجي، ومن خلال ضبط النفس. فهذا الأسلوب من شأنه أن يستنزف جزءاً كبيراً من قوة الحركة. ونظراً إلى أنها صممت هجومها على نحو يجعل إسرائيل تبالغ في رد فعلها، فإن أفضل شيء تستطيع هذه الأخيرة فعله الآن هو رفض التحول إلى أداة تخدم مصالح “حماس”.