على وقع اضطرابات يعيشها الجزء الشرقي والشمال الشرقي من سوريا، صادق المجلس العام للإدارة الذاتية على اعتماد “العقد الاجتماعي” الخاص بالمنطقة، وبرز معه الإعلان الرسمي باعتبار أراضي الشمال الشرقي إقليماً يتبع لما وصفه العقد الجديد بـ”جمهورية سوريا الديمقراطية” بدلاً من الجمهورية العربية السورية.
وجاء في مستهل العقد الاجتماعي الحديث تحت عنوان “ديباجة” أنه يعد إدراكاً من أبناء المنطقة وتلبية لمطالب الشعوب في العيش بكرامة واستجابة للتضحيات الجسام التي قدمها السوريون.
وتقول هذه “الديباجة”، “تكاتفنا معاً كرداً وعرباً وسريان وآشوريين وتركمان وأرمن وشركس وشيشان ومسلمين ومسيحيين وإيزيديين لإقامة نظام ديمقراطي في شمال وشرق سوريا ليشكل أساساً لبناء سوريا المستقبل من دون نزعة عنصرية أو تمييز أو إقصاء أو تهميش لأية هوية”.
وتعد “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا حديثة العهد نشأت حدودها مع اندلاع الصراع المسلح في البلاد قبل عقد من الزمن، وولدت خلالها قوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصاراً باسم “قسد”.
وتمتد منطقة الإقليم في محافظات وأرياف الحسكة والرقة ودير الزور وحلب، حيث تتعدد الأعراق من عرب وكرد وغيرهم، وإن كان يهيمن المكون الكردي على الإدارة التي تسمي المنطقة ذاتها “روج آفا” بالكردية، وتعني بالعربية “الغرب” في إشارة إلى غرب كردستان وهي المنطقة التي يسعى الكرد إلى إنشائها بعد ضم أجزاء من إيران وتركيا والعراق.
على طريق اللامركزية
وإزاء هذا التطور وبعد إقرار العقد الاجتماعي، يضع الأكراد، أكثر المتحمسين لإنشاء حكم بنظام اتحادي ومستقل، العقد الاجتماعي كلبنة أساسية لدستور إقليم يتمتع بالأساس بحكم ذاتي منذ عام 2013 حين بدأوا حربهم على تنظيم “داعش” إلى اليوم.
ويتخوف مراقبون من عواقب هذه الخطوة التي جاءت في فترة حرجة وتعج بالتطورات المتسارعة آخرها حرب غزة بعد عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وما نتج من حرب الساحات المفتوحة بحيث جعلت القواعد الأميركية والفصائل الموالية لإيران في سوريا بحال اشتباك منذ ذلك الوقت.
في المقابل يعتقد فريق من المتخصصين بأن المنطقة في حاجة إلى وضع أسس حكم بعد حال الفوضى التي شهدتها منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية وصولاً إلى حكم “داعش” ثم التهديدات التركية للوجود الكردي.
وفي حديثه إلى “اندبندنت عربية”، قال مسؤول الفروع الخارجية في شبكة “راصد” لحقوق الإنسان الكردية جوان اليوسف إن العقد الاجتماعي يرسم طريقاً ليس للفيدرالية بشكلها الخاص لكن إلى “لا مركزية” في سوريا لأن هذا العقد يعلن عن تشكيل إقليم له خصوصيته.
اقرأ المزيد
تكتيكات جديدة لمهربي المخدرات من سوريا إلى الأردن
حين طالب عرفات السعودية بحمايته من سوريا قبل إسرائيل
نازحون سوريون يلتحفون البرد ويفترشون السيول
العشائر في سوريا “صراع البقاء” على ضفاف الفرات
وأشار إلى أن هذا الإقليم هو جزء من سوريا الديمقراطية، فإنه يشترط وضع رؤية سياسية لمستقبل سوريا بحيث تستطيع مكوناتها المختلفة أن تكون جزءاً من هذه الجغرافيا حتى تراعي مصالح المناطق عبر آليات محددة ومعينة.
لكن هذه الرؤية التي يطالب بها اليوسف غير موجودة في العقد الاجتماعي لأنه ببساطة يحتاج إلى قانون لرسم هذه السياسية.
وأضاف أن “العقد لم ترد فيه أشياء جديدة خارج ما تقوم به الإدارة الذاتية، فهناك نص نظري فيه كثير من الفقرات تتعلق بالحريات والمحاكم وحق التقاضي وحقوق الشباب والنساء. أما في ما يخص الحقوق فإنه في حال تنفيذ 25 في المئة منها سيكون ذلك رائعاً”.
ويجزم بأن هذا العقد من جانب آخر يماثل بين مكونات المجتمع، ولم يميز بين العرب والأكراد والسريان، سواء في اللغة أو الحكم أو غيرها من الأمور، مشيراً إلى تمسكه أيضاً بالمحافظة على الديموغرافية وإعطاء الحق لهذه المكونات مجتمعة في الدفاع عن التغييرات التي فرضتها تركيا على الأرض.
وقال “لكن هناك نقاطاً مفعمة بالأيديولوجيا مثل سعي العقد الاجتماعي إلى نظام ديمقراطي (بيئي) من دون توضيحات، فماذا يعني ذلك؟”.
وحدة الأراضي والتهديدات
في المقابل، يستقبل الشارع السوري قرار العقد الاجتماعي الذي يقتطع إقليماً كاملاً خارج حسابات الدولة والسيادة بكثير من علامات التعجب حيال الأرض السورية والفيدرالية.
إلا أنه وبحسب وصف متخصصين في دمشق فإن هذا الإقليم يتمتع بحكم ذاتي منذ ما يقارب 10 أعوام ولم يضِف العقد الاجتماعي أي جديد سوى إعلانه رسمياً عن هيكلة مؤسسات الإقليم.
ويحسم الباحث الأكاديمي والحقوقي إسماعيل عبدالحق، فكرة ولادة الإقليم بصورته الرسمية عبر صلاحيات مجالسه المحلية ذات الغالبية الكردية، مشيراً إلى أن أحد أسباب حرب العشائر المندلعة بشراسة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي هو تفرد الأكراد بحكم مناطق ذات غالبية عربية، علاوة على أنها أطبقت السيطرة على كامل ترابها من دون الرجوع إلى الحكومة المركزية في دمشق.
وأضاف أنه “يمكن مراجعة تجارة النفط والبترول المستخرج من أراضٍ تعد غنية ووفيرة بالغلات الزراعية والموارد النفطية والغازية، وكلها بمساعدة قواعد التحالف والقوات الأميركية وحمايتها، لكن السؤال الأبرز أن ما دام العقد يشير إلى أن الإقليم مرتبط بإدارة مركزية فهل يحق له تغيير اسم الجمهورية أو الحديث عن إعادة هيكلة الحكم من دون موافقة هذا المركز؟”.
ولم يخفِ عبدالحق هواجس الشعب السوري حيال مرور هذا الإجراء والاستمرار في شرعنة الحكم الذاتي بهذه الصورة من تشجيع طوائف وأقاليم أخرى داخل البلاد التي لا تزال تعيش صراعات حادة، على المطالبة باستقلال وحكم ذاتي، خصوصاً في المناطق الجنوبية مثل جبل العرب الذي يشهد إلى اليوم احتجاجات شعبية وإن لم تصل بعد إلى درجة المطالبة بالاستقلال.
لكنه يرى في الوقت ذاته أن الأمر لن يمر بهذه السهولة وسط تربص الجانب التركي وشعوره بتنامي تهديدات “حزب العمال الكردستاني” لحدوده الجنوبية ويدرجه ضمن قائمة الإرهاب، خصوصاً أن ذلك يأتي مع إعلان أنقرة شروطها للانسحاب من أراضٍ سورية شمالاً بعد توغل قواتها بمشاركة المعارضة السورية المسلحة في ثلاث عمليات عسكرية (2016- 2019) بذريعة وقف التهديدات الكردية.
ووضع وزير الدفاع التركي يشار غولر، منتصف ديسمبر (كانون الأول) الجاري، شرطين لانسحاب قوات بلاده، يقضي الأول باتفاق المعارضة السورية مع حكومة دمشق على دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات.
العقد الجديد
وعلى رغم إحكام الإدارة الذاتية الكردية سيطرتها عام 2013 وإنشاء قوات سوريا الديمقراطية الذراع العسكرية المتحالفة المحلية مع قوات التحالف الدولي بزعامة أميركا لمحاربة “داعش”، لكنها اليوم تضع تفاصيل أكثر في ما يخص هيكلة البلديات في جميع مناطق سيطرتها شرق نهر الفرات.
وحمل العقد 134 مادة من أبرزها تعديل اسم الجمهورية إلى الجمهورية السورية الديمقراطية، فضلاً عن إطلاق تسمية مجلس الشعوب شمال وشرق سوريا على المجلس العام للإدارة الذاتية، وكذلك إحداث مؤسسات للرقابة والجامعات وغيرها.
هنا يشير الباحث في شبكة “راصد” لحقوق الإنسان الكردية جوان اليوسف إلى جملة ملاحظات “لعل أبرزها أن العقد الاجتماعي يسعى إلى إقامة نظام ديمقراطي اجتماعي في مواجهة الرأسمالية، وهذه القضية يوجد فيها خلل بالأساس لأن من يحمي الإدارة الذاتية هم الأميركيون، في حين أن الولايات المتحدة دولة رأسمالية”.
وأضاف أنه “من وجهة نظر أخرى، العالم بأسره يتوجه إلى نماذج لأسواق اقتصادية وليس هناك نظام اشتراكي أو رأسمالي، بل نماذج اقتصادية متعددة ومتنوعة إما أسواق مفتوحة أو مغلقة أو مختلطة وأشكال هذه الأسواق تقنن بطريقة ما”.
وفي حين لم يختَر العقد الاجتماعي بعد “العلم” الجديد للمناطق الخاضعة لنفوذه، إلا أنه بدا أقرب إلى دستور لها وتقنين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فيها.
وتحدث بيان صحافي لمجلس الإدارة الذاتية يوم إعلان العقد عن إجراء سلسلة اجتماعات ولقاءات جماهيرية في جميع مناطق الإدارة شمال وشرق سوريا لمناقشة التفاصيل المسودة واستقبال المقترحات، وعرضها على لجان صياغة اجتمعت في مدينة الرقة على مدى أربعة أيام منذ الرابع من ديسمبر الجاري.
وتشير المعلومات الأولية إلى الدفع نحو خطوة تعد الثانية بعد إقرار العقد الاجتماعي بالتحضيرات لإجراء انتخابات، وتشكيل مفوضية لهذا الغرض على مستوى الإقليم والبدء بانتخابات في سبع مقاطعات، وفق ما ذكر نائب الرئاسة المشتركة للإدارة الذاتية كبرئيل شمعون في تصريحات صحافية.
في المقابل، يرجح اليوسف ردود فعل تتقارب وتتفق بين حكومة دمشق والمعارضة، معرباً عن اعتقاده بأن المعارضة ليست لديها أية رؤية خارج الإرادة التركية، لا سيما الائتلاف وتشكيلاته العسكرية والسياسية.
وقال، “لا أتوقع أن تتعامل بجدية أو بعقل نقدي مع هذه المبادرة أو العقد الاجتماعي، وفي هذه النقطة تتفق المعارضة وسلطة دمشق معاً، فعلى رغم خلافهما على كل شيء، يتفقان على معارضة أي مشروع فيه نفس كردي”.
يأتي ذلك وسط أحاديث تدور في الشارع السياسي عما ستؤول إليه أحوال تلك البقعة من الأرض، والغموض حيال أي موقف ميداني يدفع أنقرة من جهة، ودمشق من جهة أخرى إلى اتخاذ تحرك عسكري، ربما بمشاركة روسية أو من دونها لعدم الاصطدام مع أميركا بهدف إعادة السيطرة على شمال وشرق سوريا والاستحواذ على موقعها الاستراتيجي وغلال وفيرة من الغذاء والنفط.