في خضم مساجلات كبيرة حول التطورات الدولية وانعكاساتها على النظام الدولي من حيث تركيبته وتوزيع القوة بين الفاعلين الرئيسيين فيه والأدوار التي تقوم بها مؤسساته، وما يستتبع ذلك من تساؤلات عما إذا كان النظام ما زال أحادي القطبية أم أنه بات متعدد الأقطاب، اندلعت حرب غزة الخامسة (أكتوبر 2023 ….). هذه الحرب لامست جوانب كثيرة من عناصر تلك المساجلات التي لم تعد في الإطار التنظيري فقط، وإنما باتت معلنة وصريحة من قبل أطراف ترفض ما تسميه بالهيمنة الأمريكية، والأحادية، والتصرف بعقلية الحرب الباردة، وتأسيس التحالفات، وفرض العقوبات، والتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى وغيرها من قوائم الرفض التي تقدمها كل من روسيا والصين بالأساس.
حضرت بعض من عناصر تلك المساجلات عند التعامل مع حرب غزة من قبل أطراف هذه المساجلات الرئيسيين، وتحديداً كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين. هذا الحضور بعضه كان مباشراً، وبعضه غير مباشر. كما أن بعضه واضح وجلي وبعضه غامض وقد يثير إشكاليات. وقد طال ذلك مسببات الحرب وإدارتها وما يمكن أن يحدث بعدها.
نظام الهيمنة كأحد مسببات الحرب وإطالة أمدها
لم تخف كل من روسيا والصين تعرض الشعب الفلسطيني لمظالم على مدار عقود، وهو ما أكد عليه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش منذ البداية. وكان هذا أحد الأسباب التي جعلته موضعاً لانتقادات إسرائيلية لاذعة. هذه المظالم كان هناك اتفاق على أن يتم التعامل معها وفقاً لتسوية بغض النظر عن عدالتها أم جورها، إلا أنه وبعد عملية تفاوضية شاقة وصلت الأمور إلى ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة في مدى زمنى محدد. لكن ما حدث أن هذه الدولة بدأت مكوناتها تتآكل بفعل الاستيطان أولاً، وبفعل تراجع الزخم بخصوص الآليات التي أنشئت للمعاونة في ذلك، ومن بينها المجموعة الرباعية الدولية المشكلة من قبل كل من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ثانياً.
لماذا حدث ذلك؟ـ تأتي الإجابة من الجانب الروسي واضحة ولا لبس فيها ممثلة في أن الولايات المتحدة قد همشت كل الآليات واحتكرت عملية التسوية. ومع ذلك، لم تقدم لهذه العملية شيئاً يذكر. ومعلوم كيف أن واشنطن تغدق على إسرائيل المساعدات، وتغض الطرف عما تقوم به من تجاوزات.
أما والأمر كذلك فماذا ينتظر من الشعب الفلسطيني؟. لابد أن تكون هناك مقاومة لهذا الظلم المتواصل. وفي هذا الأمر تتفق كل من الصين وروسيا والأمين العام للأمم المتحدة بغض النظر عن المسميات المستخدمة. وهناك مسئولون في الأمم المتحدة ذهبوا إلى أبعد مما ذهبت إليه الصين وروسيا في التوصيفات. وعلى سبيل المثال، فإن فرنشيسكا ألبانيز مقررة الأمم المتحدة المستقلة المعنية بحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة وصفت الاحتلال الإسرائيلي بأنه “أداة للاستعمار الغربي والوحشية والاعتقال والاحتجاز التعسفي وتنفيذ إعدامات بإجراءات موجزة ضد الشعب الفلسطيني”. ثم تواصل وكأنها تفند الرواية الإسرائيلية ورواية من يشايعوها بأن ما تقوم به في غزة هو رد على ما حدث في السابع من أكتوبر فتقول: “تم قصف غزة عندما لم يكن هناك أي هجوم من جانب قطاع غزة. هل أوقف المجتمع الدولي هذه اللاشرعية التي طال أمدها؟ لا، لهذا السبب أواصل القول إن المجتمع الدولي يتحمل مسئولية ضخمة في الكارثة الإنسانية التي تتكشف الآن”. واعتبرت أن الفلسطينيين يتم تجريدهم من إنسانيتهم حتى قبل السابع من أكتوبر، وأن ذلك وصل إلى مستوى غير مسبوق، مذكرة بتصريحات بعض المسئولين الإسرائيليين في هذا السياق، ومؤكدة مرة أخرى على أن الخطاب الغربي هو الآخر يضخم من الخطاب الإسرائيلي.
أما بالنسبة لإطالة أمد الحرب، فإن المنطلق الأمريكي والغربي المنحاز تماماً للسردية الإسرائيلية هو ما جعل وقف إطلاق النار يتعثر مرة تلو الأخرى، وهو ما جعل مشاريع قرارات مجلس الأمن تتهاوى تباعاً أيضاً. ومرة أخرى هذه ليست رواية المنافسين للولايات المتحدة على تراتبية القوة في النظام الدولي وحدهم، وإنما هناك مسئولون دوليون اتفقت أطروحاتهم مع أطروحات تلك القوى. المندوب الروسي في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا ذهب إلى أنه “خلال هذه الأسابيع، أصبحت حقيقة واحدة غير لائقة للغاية واضحة. بالنسبة للغرب، الفلسطينيون هم أناس من الدرجة الثانية. وهو ليس معنياً في الدفاع عن مصالحهم. هذا هو السبب الرئيسي للمشاكل التي واجهها المجلس عند اتخاذ القرارات”. ومن ثم فلا غرو أن يقول مارتن غريفيث وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشئون الإنسانية بأن الناس في غزة قد “فقدوا الثقة في الإنسانية”. ومرة أخرى وصفت فرنشيسكا ألبانيز استجابة المجتمع الدولي بغير المسئولة، كما اعتبرت أن الدول الغربية “استمرت في التصرف بشكل منحاز”.
الانحياز هذا والازدواجية كان الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين واضحاً في الضغط عليها عندما خاطب من وصفهم بـ”المصدومين مما تقوم به بلاده في أوكرانيا”، طارحاً عليهم تساؤلات تتعلق بقصف المدنيين في غزة، واضطرار الأطباء لإجراء عمليات جراحية دون تخدير، ووصف الأمين العام للأمم المتحدة غزة بتحولها إلى مقبرة للأطفال. وتسائل بوتين عما إذا كان ذلك يصدمهم أيضاً. وقد كان المندوب الروسي في الأمم المتحدة واضحاً في وصف تعامل الغرب مع الشعب الفلسطيني، خاصة عند المقارنة بالسلوك الغربي حيال أوكرانيا معتبراً أن الأمر يتعلق بـ”معايير مزدوجة صارخة” ليواصل طرح الأسئلة على الوفود الغربية: “أين هي مناشدتكم للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال؟ أين جهودكم لإنشاء كافة أنواع لجان التحقيق والمحاكم؟”.
السردية الأمريكية في المقابل كانت واضحة تماماً من حيث التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، ومن ثم التصدي لمحاولات وقف إطلاق النار قبل أن تنجز إسرائيل مهامها. هذا الإصرار الأمريكي واستمرار سوء الأوضاع على الأرض هو ما دفع أنظونيو جوتيرش إلى تفعيل المادة التاسعة والتسعين من ميثاق الأمم المتحدة، وهي الخطوة التي جرت عليه هجوماً إسرائيلياً واسعاً أيضاً. وفي تفنيد سردية الدفاع عن النفس تلك ذهبت ألبانير إلى أنه لا يمكن التسليم بما تذهب إليه بعض الدول من أن ما تقوم به إسرائيل هو دفاع عن النفس متسائلة: “كيف يمكن أن يكون هذا دفاعاً عن النفس، وهناك قصف شامل لشعب بأكمله تحت هدف غامض ومبهم، وهو القضاء على حماس”.
يلاحظ أن الأمر مرتبط بمسائل أساسية مطروحة في مساجلة النظام الدولي من بينها العدالة في هذا النظام، والمعايير التي تطبق وما إذا كانت هناك ازدواجية في تطبيقها، وكذلك دور المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة في الشئون الدولية. بالنسبة للعدالة، هل الأمر متعلق بعدالة مطلقة أم بما يراه كل طرف بأنه عدالة؟، وفيما يتعلق بازدواجية المعايير فقد توجه أسئلة لمن ينتقدون السلوك الأمريكي والغربي حيال ما يحدث في غزة مقارنة بما يحدث في أوكرانيا من بينها: هل لو كانت واشنطن قد صمتت على ما تقومون به في أوكرانيا هل كنتم ستصمتون على تشجيعها لإسرائيل فيما تقوم به في غزة؟. وبالنسبة لدور الأمم المتحدة، فالأمر لا يرتبط بعدالة القضية الفلسطينية ولا غيرها من القضايا فقط بقدر ارتباطه بنمط وهيكلية صنع القرار في مجلس الأمن الدولي، ومن ثم وجود آليات لتنفيذ القرارات التي يتم اتخاذها. من الواضح أنه ومنذ نشأة المنظمة الدولية فإن السلوك التصويتي للدول الأعضاء عندما يرتبط الأمر بما تعتبره مصلحة وطنية عليا ينحاز إلى هذه المصلحة دون الالتفات إلى أي من المعايير التي يطرحها كل طرف حيال الطرف الآخر. حدث ذلك في زمن الحرب الباردة وحدث بعدها. وأما عن آليات التنفيذ فإن الخلل في هذه الناحية هيكلي ومتواصل أيضاً. وفي أحيان كثيرة تضرب تلك الدول عرضاً بالأمم المتحدة وميثاقها، والتاريخ ملئ بالنماذج. كما أن لكل تفسيره للميثاق أيضاً. ولا يمكن أن ينسى العالم وزير خارجية بريطانيا في حينه جاك سترو عندما أخرج ميثاق الأمم المتحدة من جيبه قائلاً إنهم يتصرفون طبقاً له عند الإعداد لغزو العراق. كما أن الأمم المتحدة قد تعرضت من قبل لاعتداءات سافرة. وفي الحرب الحالية لا يقف الأمر عند الهجوم الإسرائيلي الضاري على مسئولي المنظمة والاتهامات التي توجه إليهم، وإنما هناك إجراءات تقييدية بالنسبة للتأشيرات المطلوبة لتحركاتهم. والأهم من كل ذلك أن الكثيرين من العاملين في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل الللاجئين (الأونروا) قد قتلوا.
تفاعلات مباراة النظام الدولي وأوضاع ما بعد الحرب
لقد باتت هناك مباراة كبرى محددة الأطراف متشعبة الأبعاد فيما يتعلق بمآلات النظام الدولي. هذه المباراة لعبت بقواعدها التي باتت معروفة منذ سنوات في حرب غزة الدائرة. وقد يقال إن الطرف المهيمن ما زال كذلك بحكم تعطيله صدور قرارات بوقف إطلاق النار. وقد يقول البعض إن الأمر لا يرتبط بطرف دون الآخرين، فالجميع مسئول عن الكارثة التي تحدث في غزة. وهناك من ذهب إلى القول صراحة إن نمط التصرف الدولي مفاده أن النظام الدولي القائم على القواعد التي تروج له قوى معينة متشبثة ببقائه قد تصدع بالفعل في ظل ما يحدث في غزة. بينما كان البعض أكثر تحديداً عندما تحدث عن انهيار ما أسماه بالنظام الدولي الليبرالي. وكان هناك آخرون أكثر تحفظاً في الحكم على هذا النظام الموصوف بالليبرالي بأنه فقط بات في مفترق طرق.
معظم هذه المقولات تنطلق من اعتبارات قيمية تخص انتهاكات القانون الدولي الإنساني الموثقة بالصوت والصورة، والتي جعلت ريتشارد بيبركورن ممثل منظمة الصحة العالمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة يعتبر الأوضاع “تقترب من أحلك أوقات البشرية”. كما أن الأمين العام للأمم المتحدة اعتبر أن “حماية المدنيين لا يمكن أن تعني استخدام المدنيين كدروع بشرية. حماية المدنيين لا تعني إصدار الأمر لأكثر من مليون شخص بالإجلاء نحو الجنوب حيث لا يوجد مأوى أو غذاء أو ماء أو دواء أو وقود. ثم قصف الجنوب نفسه”.
منذ البداية كانت هناك أصوات كثيرة على رأسها الصين وروسيا تتحدث عن أهمية إحياء حل الدولتين. ومنذ البداية كان ذلك أيضاً موضع نقد من إسرائيل وحلفائها إما بشكل كلي أو لعدم مناسبة الظرف للحديث عن هذا الموضوع. إذ كانت الأولوية لديهم إدانة عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، وهذا ما تم مطالبة الصين به أكثر من مرة على حد وصف السفير الأمريكي في بكين نيكولاس بيرنز، والذي اعتبر أن الصين تسعى لنفوذ أكثر في منطقة الشرق الأوسط، مذكراً بما قامت به من وساطة بين السعودية وإيران.
إذا كانت روسيا قد تحدثت عن مساهمات يمكن أن تقدمها في التوصل إلى تسوية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وفقاً لمرجعيات محددة ومعروفة، فإن الصين قد تقدمت بورقة موقف تضمنت خمس مقترحات، الثلاث الأولى منها تركز على معالجة الوضع الراهن من حيث وقف إطلاق النار وإنهاء القتال على نحو شامل، وحماية المدنيين عبر خطوات ملموسة، وضمان الإغاثة الإنسانية. أما المقترح الرابع فقد جاء تحت عنوان الوساطة الدبلوماسية. المقترح الخامس كرس لإيجاد حل سياسي. مواصفات هذا الحل مستندة إلى مرجعية دولية ممثلة في قرارات مجلس الأمن، وما أطلق عليه التوافقات الدولية. فحل الدولتين مخرج أساسي لتسوية القضية الفلسطينية، بحيث تنشأ دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على حدود العام 1967، على أن تكون عاصمة تلك الدولة القدس الشرقية، ويستعيد الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة. ومرة أخرى طالبت الصين مجلس الأمن بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام وصفته بالموسع وذي مصداقية أكبر وأكثر فعالية وبأسرع وقت ممكن. ليس هذا فحسب بل طالبت بضرورة وجود جدول زمني محدد لتنفيذ حل الدولتين وفق خريطة طريق واضحة.
وبينما يدور النقاش واسعاً في تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى حول وضع غزة ما بعد نهاية الحرب، كانت بكين واضحة بأن أي ترتيب في هذا السياق لابد أن يحترم إرادة الشعب الفلسطيني وخياره المستقل، ومن ثم فلا يجوز فرض ترتيبات بعينها عليه. وبذلك ختمت المقترحات الصينية التي تحمل إشكاليات مرتبطة بآلية صنع القرار الدولي، حيث أن التعويل الرئيسي في المبادرة الصينية كان على مجلس الأمن. والصين أول من تعلم آليات عمل هذا المجلس، وكيف أن دولة واحدة بمقدورها أن توقف صدور قرارات وافق عليها كل الأعضاء الأربعة عشر الأخرى. لكن ذلك مرده أن الصين تصر على ما تسميه النظام الدولي القائم على القانون الدولي وفي القلب منه الأمم المتحدة.
لم تكن فلسطين يوماً بعيدة عن تفاعلات النظام الدولي. فالقضية الفلسطينية نشأت على إثر قرار اتخذته قوة كانت تسعى لاستمرار هيمنتها على النظام الدولي في حينه. وإسرائيل نشأت بقرار دولي في ظل تحولات كبيرة في النظام الدولي. فهل ستشهد تحولات النظام الدولي الراهنة إنصافاً للفلسطينيين أم سيقع عليهم مزيد من الظلم الذي اعتادوه رفقة تحولات النظام الدولي؟.