ضمن تلخيصه للحرب على غزة، التي تبلغ، اليوم الأحد، ثلاثة شهور، قال الناطق بلسان جيش الاحتلال، ليلة أمس، إن إسرائيل نجحت في تفكيك الهياكل العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” في شمال القطاع، منوّهاً بأن 2024 سيكون هو الآخر عام قتال، وسط تشكيك إسرائيلي متزايد بالرواية الرسمية، وبجدوى الحرب وسلم أولوياتها ومدى خلو حساباتها من الاعتبارات الفئوية الغريبة.
علامات السؤال والاستفهام حول مزاعم هغاري، وغيره من الناطقين الرسميين، لها ما يبررها على الأرض، فالحرب طالت حتى الآن ثلاثة شهور، وتبدو مفتوحة، وبلا أفق، رغم أنها تدور مقابل تنظيم لا دولة. وإذا كان الجيش الغازي قد حقق نجاحاته المذكورة في شمال القطاع، فما الحاجة لعام آخر من الحرب؟!
كذلك فإن هذه الحرب الوحشية التي أغرقت غزة في بحر من الدم والدمع مكلفة وموجعة للجانب الإسرائيلي، فحتى الآن، ووفق معطيات الجيش نفسه، قتل 175 من جنوده منذ الحملة البرية، في السابع والعشرين من أكتوبر الماضي (أكثر من 500 جندي قتيل منذ نشوب الحرب) علاوة على توقعات إسرائيلية بالإعلان رسمياً هذا العام عن 12500 جندي معاق، أصيبوا منذ بدء الحرب على غزة.
تسفي بارإيل: نصر الله أوفى بوعده بالثأر لقتل العاروري، لكنه ما زال يسير بحذر ضمن معادلة الردع، وغير معني بحرب شاملة
وتنطوي هذه الحرب، غير المسبوقة في وحشيتها، منذ بدء الصراع قبل أكثر من قرن، على خسائر وأضرار فادحة أخرى لحقت وتلحق بإسرائيل، منها وجود 125 ألف إسرائيلي نازح من الجليل الأعلى، وفي “غلاف غزة”، مع كل تبعات ذلك مادياً ومعنوياً.
يندرج ضمن جرد حسابات الحرب، في هذا اليوم، بقاء 136 محتجزاً في قطاع غزة، يواصل احتجازهم التسبّب بضرر معنوي ووعيوي لدى مجمل الإسرائيليين.
هذا اليوم تكرّس صحيفة “هآرتس” مساحات من صفحاتها البارزة لقضية المحتجزين، وتنشر صورة المظاهرة في تل أبيب، ليلة أمس، المطالبة باستعادتهم الآن، حتى بثمن وقف الحرب دون تحقيق أيّ من أهدافها. وفي الصورة المذكورة في قلب صفحتها الأولى ترفع سيدة إسرائيلية لافتة بالإنكليزية تقول: “الرئيس بايدن أنت القادر فقط على إنقاذهم”. وفوق الصورة عنوان فرعي يستبطن موقفاً مناصراً للعائلات: “كل يوم يمضي يقتل شخص ..جسدياً أو نفسياً”.
وهناك أوساط إسرائيلية متزايدة تطالب باستعادة المحتجزين الآن مقابل وقف الحرب التي يمكن العودة لها مجدداً في أي وقت مستقبلي، لكن ليس مضموناً أبداً أن يبقى المخطوفون على قيد الحياة إذا ما استمرت، كما أكد الجنرال في الاحتياط يائير غولان، النائب السابق لقائد هيئة الأركان، في حديث مع الإذاعة العبرية العامة. وتبعه قائد الجيش السابق الجنرال في الاحتياط دان حالوتس، الذي قال، في حديث للقناة 12 العبرية، ليلة أمس، إن بقاء نتنياهو في رأس هرم السلطة يحول دون تحقيق نجاحات في هذه الحرب، معتبراً سقوطه “صورة النجاح الحقيقية”.
متطابقاً مع غولان، أكّد حالوتس على أن المهمة الأهم الآن استعادة المحتجزين من غزة بكل ثمن، بما في ذلك وقف الحرب التي يمكن استئنافها مستقبلاً، بعكس المحتجزين الذين لا يستطيعون الانتظار. ويضيف: “نتنياهو يدير مشغولاً بحرب ضد المستوى العسكري، وبادرَ لنصب كمين لقائد الجيش هليفي، بالتنسيق مع أربعة وزراء”.
ضمن تلخيصها الشهور الثلاثة، تقول صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية إن الحرب كلّفت إسرائيل، حتى الآن، أكثر من 60 مليار دولار، وتنقل عن مراسلها العسكري يوآف زيتون قوله إن تفكيك قدرات “حماس” العسكرية ما زال هدفاً بعيداً.
ويتوافق معه عددٌ من المراقبين والمحللين العسكريين ممن يشككون بالرواية الإسرائيلية الرسمية، ويقرّون بأن أهداف الحرب لم تتحقق.
ويضيف زيتون: “مع استمرار الحرب فترة طويلة، الجيش يقترب من تقطيع أوصال القطاع، ويخشى من ازدياد الخطر على قواته في بعض المواقع نتيجة المراوحة في المكان. ومع حرص الجيش للتقدم بحذر لم تتحقق أهداف الحرب”.
بالنجاح للمحكمة الدولية
يضاف لذلك الإصابة البالغة في صورة إسرائيل بعيون المجتمع الدولي غير الرسمي، حيث كان الجانب الفلسطيني قد حسم المعركة على الوعي معها منذ أن تكشفت ملامح الجرائم التي ارتكبت داخل القطاع.
وفي هذا المضمار، يشار للتحوّل في الموقف لدى الشباب، حتى في الولايات المتحدة، حيث يرى ثلثا الفئة العمرية من 18 إلى 24 سنة بضرورة قيام دولة فلسطينية من البحر للنهر، منحازين بوضوح لجانب “حماس”، حسب الاستطلاع الأمريكي، الشهر المنصرم.
غير أن هذه الخسائر الإسرائيلية لا تعفي كل الفلسطينيين، لا “حماس” فحسب، من صياغة إستراتيجية تنقذ غزة من استمرار المذبحة والضغط على إسرائيل، وبالاستعانة بدول عربية قادرة على التأثير وتفضّل، حتى الآن، الصمت، أو تكتفي بالقليل من الفعل، مثلما أن نجاح “حماس” في حلبة المعركة على الوعي لا يسدّ غيابها في الساحة الدبلوماسية- الدعائية في العالم، خاصة أنها متهمة بمحاولة إلقاء اليهود في البحر، بينما تسعى جهات إسرائيلية لتدمير وتهجير الفلسطينيين وهم في تراب وطنهم.
تشير جهات صحفية عبرية لاتّساع معاداة السامية في كل العالم. وإصبع الاتهام بذلك موجه أيضاً للصين وروسيا
وهنا، تشير جهات صحفية عبرية لاتّساع “اللاسامية” في كل العالم. وتوجّه صحيفة “يديعوت أحرونوت” إصبع الاتهام بذلك أيضاً للصين وروسيا.
وفي حسابات المعركة على الوعي، تخشى إسرائيل، أكثر مما كان في الحروب السابقة، من مقاضاتها فيمحكمة العدل في هاغ، فسارعت لاستئجار خدمات قاض بريطاني خبير للدفاع عنها. وهذا أيضاً يقلق الإسرائيليين، لأن التعامل معهم كسائحين وزائرين في دول العالم من المرجح أن يكون مختلفاً. ومن الأصوات المغردة خارج السرب الإسرائيلي التي تحذّر من ذلك، وتدعو لوقف الحرب الدموية على غزة فوراً، المعلق الإسرائيلي جدعون ليفي الذي يتمنى النجاح لمحكمة العدل الدولية:
في مقال تنشره “هآرتس” اليوم يقول ليفي: “فلتقررالمحكمة إذا كان ما قامت به إسرائيل حتى الآن كافياً لإدانتها بالقيام بإبادة شعب، أو جرائم حرب أخرى. من الناحية الضميرية الجواب واضح”. ويغرد ليفي باستذكار الخطيئة الأولى، سبب كل الشرور: “مشكلة غزة ولدت عام 1948، وهي من صنع إسرائيل، فقد طردت مئات الآلاف من الفلسطينيين من محيط يافا واللد والرملة ومجدل عسقلان ضمن تطهير عرقي في جنوب البلاد.. والآن يطالب وزراء إسرائيليون في الكابينت باستكمال المهة”.
علاوة على كل ذلك، ولجانب الفشل في تحقيق أهداف الحرب على غزة تجد إسرائيل نفسها في جبهة في الشمال مقابل “حزب الله”. وتشهد تصعيداً مربكاً وموجعاً لها، وليس فقط للسكان اللبنانيين ولـ “حزب الله”، الذي يخسر من قواته ومدخراته العسكرية، وهو تصعيد من شأنه فتح حرب جديدة، رغم عدم رغبة كل الأطراف بها.
الحرب ليست الحل الوحيد
وكان “حزب الله” قد أطلق، أمس، رشقات من صواريخ دقيقة وموجهة وطائرات مسيّرة أصابت بدقة بالغة وألحقت ضرراً فادحاً بقواعد الجيش ومعسكرات حساسة في جبل الجرمق. وردت إسرائيل بتصعيد آخر باستهدافها أهدافاً أكثر عمقاً في الأراضي اللبنانية. ويرى مستشار الأمن الأسبق الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند أيضاً أن هذا التصعيد من الممكن أن يقود لتصعيد حرب لا يريدها الطرفان.
ويرى آيلاند، في حديث للإذاعة العبرية الرسمية، صباح اليوم الأحد، أنه من غير المستبعد التوصل لتسوية، لأن كل الأطراف غير معنية بالحرب، بما في ذلك إيران، تقضي بإخلاء “حزب الله” قواعده لشمال الليطاني، رغم صعوبة ذلك، لأن عدداً كبيراً من جنوده هم سكان بلدات حدودية في جنوب لبنان. وفي المقابل ستلبّي إسرائيل بعض مطالبه الـ 14 كي يتمكن “حزب الله” من التلويح بمكسب يبرر وقفه الحرب.
ويمضي آيلاند محذّراً: “بحال استمرت المفاوضات فترة قصيرة، وعاد سكان مستوطنات الشمال، فهذا سيكون مكسباً لنا، لكن أغلب الاحتمال يتجه نحو التصعيد لفترة أطول. إسرائيل لا تستطيع تحمّل الوضع الراهن في الشمال، كي لا يتكرر سيناريو السابع من أكتوبر في الجليل. إسرائيل لا تستطيع فعل ذلك عنوة خلال الشهر القريب، لأن هذا يثقل عليها، وهذا ما تدركه الحكومة، ولذا ربما تبحث عن تسوية، و”حزب الله” أيضاً غير راغب بالحرب. حالياً، وفي الجبهة الشمالية، نحن ننجح تكتيكياً ونخسر إستراتيجياً، وهناك تبعات وتراكمات في المنظور البعيد، أخطرها تآكل قوة الردع. ولذا ينبغي أن نتعامل مع الجبهة على أننا نحارب لبنان، لا “حزب الله” فحسب.
“حزب الله” يدرك أننا سنحوّل البلدات اللبنانية لمشاهد دمار غزة، وعلى إسرائيل أن توضح ذلك كل يوم. الحرب مع “حزب الله” ستشعل حرباً إقليمية، وهذا ما تأخذه إسرائيل أيضاً بالحسبان”.
ويرى المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل أيضاً أن حرب الاستنزاف مقابل “حزب الله” تتصاعد من يوم ليوم، وأن عدم رغبة الطرفين بتوسع القتال لحرب لا يعني عدم نشوبها، موضحاً أن إسرائيل ترى الآن ما يجري في الشمال أهون الشرين.
ويضيف: “حزب الله لا يريد توسيع المعركة حتى الآن، لكن النازحين الإسرائيليين لن يستطيعوا العودة لبلداتهم، وسيضطرون للانتظار شهوراً”.
ويكرّر هارئيل انتقاداته للمستوى السياسي، خاصة نتنياهو، ويقول إنه يواصل، في التزامن، إدارة جبهة جديدة ضد قائد الجيش هليفي، الذي يقترب من قادة “حماس” داخل الأنفاق، لكن المحتجزين الإسرائيليين هناك سيقفون حائلاً دونه”.
آيلاند: “حزب الله” يدرك أننا سنحوّل البلدات اللبنانية لمشاهد دمار غزة،.. والحرب مع “حزب الله” ستشعل حرباً إقليمية، وهذا ما تأخذه إسرائيل أيضاً بالحسبان
ويتساوق معه محرر الشؤون العربية والشرق أوسطية في الصحيفة دكتور تسفي بارإيل بقوله إن نصر الله أوفى بوعده بالثأر، أمس، لقتل العاروري، لكنه ما زال يسير بحذر ضمن معادلة الردع، وغير معني بحرب شاملة، وهكذا إسرائيل أيضاً، رغم تهديدها بأنها ستتحرك عسكرياً إذا لم تنفع الدبلوماسية”.
وهذا ما يراه أيضاً المعلق السياسي في “يديعوت أحرونوت” شيمعون شيفر، بقوله إن الطرفين غير معنيين بها، لكن صبر إسرائيل ينفد، في ظل تهجير المستوطنات الشمالية، متسائلاً إذا ما سينجح المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتين في مهمته هذه المرة.
ويتزامن كل ذلك مع زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الأمريكي بلينكن، وهي السادسة للمنطقة، ومن المرجح أن منع نشوب حرب في الشمال من أبرز أهدافه، خاصة أن واشنطن مشغولة بكثير من الأمور في الداخل والخارج، وتخشى تضرر مصالحها في المنطقة، علاوة على محاولة مرتقبة أيضاً لإقناع إسرائيل بالانتقال للمرحلة الثالثة من الحرب والانسحاب لحدود القطاع. وهذا يتزامن مع فضيحة الشجارداخل مجلس الحرب، التي تدلّل على نية نتنياهو السير بخلاف الرياح الأمريكية، مواصلة الحرب ومنع التداول في سؤال اليوم التالي لحسابات تخصه وتخدم بقاءه في الحكم.
استمرار هذا الصراع على وعي الإسرائيليين بين المستوين السياسي والعسكري من شأنه أن يعمق أزمة ثقتهم بحكومتهم ويدفع عائلات المحتجزين والجرحى والقتلى وغيرهم لتصعيد الاحتجاجات من أجل استعادة الأسرى ووقف الحرب. وعلى الطريق هذا يضيق هامش مناورة غانتس ووزرائه ويعرضهم لضغوط الشارع للخروج من الائتلاف، في ظل اهتمام نتنياهو بمصالحه وائتلافه أكثر مما بمصالح إسرائيل.