دعيت خلال الأشهر الأخيرة إلى التحدث أمام عدد من الندوات والاجتماعات الأوروبية حول “الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط” حاضراً ومستقبلاً. الاجتماعات السابقة نظمت في دول عدة من شمال القارة وشرقها إلى جنوبها وغربها، وبأساليب وأطر مختلفة، بعضها من مراكز بحث مستقلة، وأخرى مرتبطة بالمؤسسات الأوروبية، وبعضها بدعوات مباشرة من الحكومات، لتستمع القارة العجوز إلى أصحاب التجارب في الشرق الأوسط من دون التقيد بالمواقف الرسمية للدول.
دفعني تعدد هذه الاجتماعات وتنوعها إلى أن أفكر في أسباب الاهتمام الأوروبي المكثف بالشرق الأوسط، وأن أحاول فهم ما يدور في الأفق الأوروبي حول منطقتنا، وأسباب القلق ومساحة الطموحات، ومن ناحية أخرى جعلتني أحاول تقييم قدرة القارة الأوروبية على التحرك كمجموعة، إذا أرادت بالفعل التحرك، بعد التشكيل الجديد للقارة مع ضم معظم شرق أوروبا، بميول غالبيتها نحو اليمين، وأثر ذلك على سياسات المجموعة الأوروبية، وما يمكن أن تفعله إيجاباً وسلباً في الشرق الأوسط.
وطبعاً ازدادت الأمور الدولية تعقيداً وعجالة مع التنافس المتزايد للغرب مع الصين، وإحياء فلسفة الحرب الباردة والاستقطاب مع روسيا إزاء أحداث أوكرانيا، والأسئلة التي فرضت على العولمة وكفاء الأسواق نتيجة جائحة “كوفيد-19” وتأثيرها في سلاسل الإمداد الإنتاجي وسهولة وصول السلع إلى الأسواق.
ومن الواضح أن أوروبا تشعر بقلق عميق مما تشهده في الشرق الأوسط، في المقام الأول من تداعيات الأزمات السياسية وارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية، وانعكاس ذلك على تنامي السياسات الشعبوية وتشريع قوانين قصرية ضد المهاجرين في دول اعتادت على استقبالهم بصدر رحب مثل السويد، ونجاح تيارات سياسية معادية للمهاجرين مثلما شهدنا في إيطاليا، وأصبحت قضية إقصاء اللاجئين نقطة جاذبة حتى للناخب التركي.
ويري بعضهم أن مصدر القلق الأوروبي الأساسي هو الاعتبار الاقتصادي والتنافس على الوظائف، وهو دفع غير سليم لأن اقتصادات كثير من الدول الأوروبية تحتاج إلى المهاجرين واللاجئين لتشغيل العجلة الاقتصادية، وأن كثيراً منهم يعملون في مهن لا ينافسون عليها الطبقة الوسطى من المواطنين الأوروبيين.
والحقيقة، تابعت بقلق مؤشرات عدة تعكس أن الناخب ومن ثم السياسي الأوروبي يرفض المهاجرين في المقام الأول حفاظاً على الهوية العرقية للبلاد، وخشية من أن تصاحب زيادة اللاجئين ممارسات متطرفة وعنف ممن لا يقبلون الاندماج اجتماعياً مع العادات والتقاليد الأوروبية الغربية الأكثر ليبرالية.
وبات واضحاً من متابعتي أن المجموعة الأوروبية غير موحدة الرأي في قضايا كثيرة وغير قادرة على الالتفاف حول توافق آراء في شأن الشرق الأوسط، يتجاوز الحد الأدنى في مواقفهم، مما يجعلها غير مجدية أو مؤثرة كثيراً في ما يتعلق بالعلاقات الخارجية، وعلى سبيل المثال على رغم أن شمال أوروبا وإيرلندا وبعض دول الجنوب ما زالت على استعداد لاتخاذ مواقف سياسية مبدئية ضد الاستيطان الإسرائيلي والممارسات غير الإنسانية ضد الفلسطينيين وأخيراً الإجرام الذي نشهده في غزة، إلا أن معظم دول شرق أوروبا سابقاً أصبحت تميل نحو إسرائيل بعدما كانت أقرب إلى الموقف العربي كجزء من الاتحاد السوفياتي.
ولاحظت ارتفاع حدة مواقف هؤلاء والدول الأوروبية عامة بما في ذلك الدول الأوروبية الصغيرة خارج الاتحاد الأوروبي بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا التي أعادت المواجع والمخاوف الأوروبية عامة ومع تلك الدول خصوصاً، مما جعلها أكثر رفضاً للحوار الدبلوماسي مع روسيا حول أي شيء، وأكثر تشدداً بالنسبة إلى الساحة السورية، حتى بالنسبة إلى إعادة الإعمار وعودة اللاجئين والمهاجرين، وكذلك بالنسبة إلى الملف الإيراني، فأصبحت أقل استعداداً للانغماس في الدبلوماسية الشرق أوسطية، وأخذت موقفاً فاتراً وغير مرحب بعودة سوريا لجامعة الدول العربية، متمسكة بأنها لن تتعامل مع الحكومة السورية حتى على المستوى الإنساني، مما جعلني أستخلص أن هناك ازدواجية وتناقضاً في كثير مما تدعو إليه الدول الأوروبية وما تطبقه فعلياً.
وسألت بعض المستضيفين عن سبب كثرة الاجتماعات التي تتم استضافتها حول أمن ومستقبل الشرق الأوسط تحت مظلة فتح الحوارات بين الأطراف المتصارعة، كمرحلة أولى من خلال جمع أطراف غير رسمية من المنطقة، من دون تنسيق المواقف الأوروبية أو ترشيد النفقات بين اجتماع وآخر، فلم أجد إجابة محددة سوى تنويه بأن اتخاذ قرار داخل السياق الأوروبي في المجال الخارجي الآن لم يعُد سهلاً، وعندما تابعت ذلك باستفسار عن جدوى هذه الاجتماعات في ظل صعوبة اتخاذ القرارات الأوروبية، انصب الرد على أن الاجتماعات تساعد أوروبا على بلورة التفكير، تمهيداً لمرحلة اتخاذ القرارات التي تتأثر بالظروف المواكبة لحظة اتخاذ القرار، وهو رد لا يبعث على الثقة بالموقف الأوروبي أو على الاطمئنان إليه.
ووجدت أيضاً قدراً غير قليل من التناقض في الدفوعات والممارسات الأوروبية، فأصبحوا على استعداد لدعوة ممثلين من إيران إلى الاجتماعات، وإنما يرفضون حضور السوريين إلا من المعارضة الخارجية وبأعداد قليلة، مفضلين عدم التعرض للساحة السورية كاملة، على رغم أنها من أصعب القضايا على المستويين السياسي والإنساني في الشرق الأوسط الآن.
وقبل أحداث غزة تجنبت الغالبية العظمى من الاجتماعات تناول النزاع العربي- الإسرائيلي في شقه الفلسطيني، وكان هناك حذر شديد من الاستدراج في الحديث عنه أو حتى عن الممارسات الإسرائيلية، والاكتفاء بالإشارة إلى أن لأوروبا تحفظاتها على مواقف بعض المسؤولين الإسرائيليين.
ومن المواقف المتناقضة الأخرى رفض الأوروبيون حتى في مراكز البحث إشراك أي ممثلين رسميين أو أكاديميين روس في تلك الحوارات، واعتذارهم من ذلك عندما طرحت الفكرة من منطلق تأثير روسيا في مواقف أطراف الساحات المختلفة في الشرق الأوسط، مما جعلني أصارحهم بالتناقض في المواقف الأوروبية حيال مطالبة دول الشرق الأوسط بالتحاور على رغم خلافاتهم ثم يعتذرون هم من تطبيق المنهجية نفسها مع روسيا أو حتى الاستماع إلى آرائهم في قضايا شرق أوسطية.
وخرجت من الاجتماعات واللقاءات أن أوروبا في مرحلة بحث عن الذات مجدداً ولن تكون طرفاً حاسماً أو مؤثراً بصورة مستقلة في الجهود السياسية بالشرق الأوسط في المستقبل القريب، على رغم تصريحات بعض المسؤولين مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن أهمية الحفاظ على الاستقلالية، وعلى رغم وجود ممثلين لها على الساحة السورية واليمنية والسودانية كمفوضين للأمم المتحدة، والرهان عليها سياسياً لن يكون له مردود إيجابي في تحريك قضايا منطقتنا والتي ستحسمها تحركات إقليمية أولاً ومواقف الولايات المتحدة وروسيا والصين.
وإذ كنت لا أراهن على الدور الأوروبي كمحرك سياسي يحسم الأمور، أرى عدم تجاهله بالكامل والاستثمار فيه على نار هادئة، خصوصاً مع التزمت الذي نشهده من الجانب الأميركي، للاستفادة من أوروبا عندما تتهيأ الظروف بين الدول الكبرى وتسمح بالتحرك بفاعلية أكبر، فضلاً عن أنها قارة مجاورة لها علاقات اقتصادية إيجابية مع دول عدة في الشرق الأوسط، على رغم الحساسيات المرتبطة بأطر وقواعد التعاون الذي تتمسك بها أوروبا، وهنا يشار إلى أن هذه القواعد والأطر لم تتأثـر على الإطلاق خلال الاجتماعات التي حضرتها أخيراً.
الواقعية تفرض على دول الشرق الأوسط خفض التوقعات والتطلعات بالنسبة إلى أوروبا، والحكمة في الاستثمار طويل الأجل في العلاقات، مع اعتبار أوروبا سلة فرص وإمكانات مهمة، إنما مجموعة تمر من جديد بمرحلة تشكيل الهوية، ولا تستطيع الآن أو في المستقبل المنظور التحرك سياسياً في عزلة عن تصرفات الدول العظمى، خصوصاً الخصوص الولايات المتحدة.