تُعقد فى العاصمة الكازاخية آستانا يومى 24 و25 يناير الجاري (2024)، الجولة رقم 21 من مسار آستانا بشأن الأزمة السورية، فى ظل أجواء إقليمية مختلفة إلى حد كبير عن تلك التى عُقدت فيها الجولات السابقة، لاسيما الجولة رقم 20 والتى عُقدت يومى 20 و21 يونيو 2023، والتى أعقبها إعلان الخارجية الكازاخية عن “توقف نشاط المسار”؛ نظراً لانتهاء الظروف المعقدة بالصراع السورى التى نشأت فى إطارها “صيغة الضمانة الثلاثية” التى أقرتها روسيا وإيران وتركيا فى عام 2017؛ وذلك بالنظر إلى نجاح تلك الصيغة فى خفض التصعيد ووقف القتال بين المعارضة والنظام السورى من ناحية، والتوصل لصياغات من شأنها الانتقال لمرحلة جديدة من العمل الجماعى الثلاثى لمعالجة قضايا نوعية بخصوص الأزمة والتى أطلق عليها “إجراءات بناء الثقة” بين النظام والمعارضة من ناحية ثانية، فضلاً عن الدفع نحو تطبيع العلاقات بين النظام السورى وتركيا من ناحية ثالثة.
وبالرغم من إعلان كازاخستان توقف المسار عند جولته العشرين، إلا أن روسيا وقتها أعلنت أن “صيغة آستانا” مستمرة كرؤية سياسية جماعية للدول الأعضاء فيها، وأنها ستنتقل للعمل عبر منصة أخرى. هذه الفرصة التى منحتها روسيا للمسار جعلت الباب موارباً لتفعيله فى أى وقت، وهو ما عكسته دعوة كازاخستان الأخيرة بشأن عقد جولة جديدة من المباحثات استجابة لرغبة المبعوث الأممى المعنى بالملف السورى جير بيدرسون، لاسيما بعد تصريحاته بشأن ارتدادات الحرب فى غزة على سوريا حيث قال: “إن العالم يحتاج إلى إنهاء الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس سريعاً”، وأن “مشكلة غزة بدأت تتسرب إلى سوريا”.
معطيات إقليمية مختلفة
سبق الدعوة إلى استئناف مسار آستانا بعد توقفه نشاط دبلوماسى سورى تجاه روسيا؛ حيث زار وزير الخارجية السورى فيصل المقداد موسكو وأجرى مباحثات مع نظيره الروسى سيرجى لافروف، بحثا فيها عدة أمور من بينها الأوضاع الحالية فى سوريا، وسبل إعادة الدفع نحو تسوية شاملة، وإعادة الزخم لمسار إعادة الإعمار، وسيادة سوريا على أراضيها. وبالرغم من موافقة موسكو على استئناف مسار آستانا، إلا أنها كانت تفضل عدم عقد أية جولات بخصوص سوريا فى ظل الظروف الإقليمية الراهنة التى فرضتها الحرب الإسرائيلية على غزة. بينما سعى بيدرسون إلى ترجمة مباحثاته مع وزير الخارجية الإيرانى حسين عبد اللهيان، على هامش اجتماعات مؤتمر دافوس في يناير 2024، فى الدفع نحو استعادة مسار آستانا لدوره عبر مناقشة تطور الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية فى سوريا حالياً.
عودة مسار آستانا بخصوص سوريا للانعقاد تأتى وسط مجموعة مختلفة من التطورات الإقليمية التى تلقى بانعكاساتها على الحالة السورية:
أولها، يتعلق بالحرب الإسرائيلية على غزة؛ حيث تُعد سوريا أحد أضلاع محور المقاومة الإقليمى الذى تتزعمه إيران، وتعمل انطلاقاً من أراضيها العديد من المليشيات العراقية وغير العراقية الموالية للحرس الثورى الإيرانى وتحظى بدعمه عسكرياً ومادياً، ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة فى أكتوبر 2023، شنت المليشيات العراقية المتواجدة على الأراضى السورية حزب الله العراقى وحركة النجباء- فى إطار عمليات إسناد للمقاومة الفلسطينية – ضربات عسكرية متنوعة على القواعد الأمريكية فى سوريا والمنتشرة فى مناطق الشمال الشرقى ما بين محافظتى الحسكة ودير الزور، فضلاً عن قاعدة التحالف الدولى فى التنف فى منطقة المثلث الحدودى السورى-العراقى-الأردنى، الأمر الذى وضع الساحة السورية فى مهب ارتدادات الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، وترجم ذلك فى استهدافات إسرائيلية على مطار دمشق وما حوله من مناطق تعتبرها إسرائيل مرتكزات للبنية العسكرية للمليشيات الموالية لإيران فى سوريا. واللافت هنا، هو غياب النظام السورى–التى تتأثر دولته بارتدادت الحرب الإسرائيلية على غزة- عن لعب دور واضح فى دعم المقاومة باعتباره أحد أضلاع هذا المحور، وبالرغم من اختلاف القراءات بشأن هذا الغياب إلا أن معظمها يتفق مع فكرة أن النظام يرغب فى المحافظة على المكتسبات التى حققتها صيغة خفض التصعيد “صيغة آستانا” على مدار الفترة من عام 2017 وحتى الآن، والتى أدت فى النهاية إلى استعادة النظام سيطرته على معظم الأراضى السورية عدا إدلب فى الشمال الغربى، ومناطق الإدارة الذاتية الكردية فى الشمال الشرقى.
وبالنسبة لتقدير تركيا للوضع السورى فى ظل الحرب على غزة، فقد رأت أن حزب العمال الكردستانى المعارض استغل الظرف الإقليمى فى شن هجمات على قواتها فى شمال العراق، خلال الشهر والنصف الماضيين، أسفرت عن خسائر فى قواتها، مما استدعى استهدافها له داخل مناطق الإدارة الذاتية فى سوريا؛ فحالة “فتح الجبهات” فى العراق وسوريا التى يقوم بها محور المقاومة-باستهداف المصالح الأمريكية ومصالح التحالف الدولى فى الدولتين-وفرت للحزب الكردستانى المعارض، وفقاً لوجهة نظر تركيا، فرصة تطويع هذه التطورات لصالحه بتوجيه ضربات لقواتها الموجودة فى الساحتين، مستهدفاً بذلك إعادة طرح القضية الكردية على ساحة التفاهمات الإقليمية مجدداً (على غرار إعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية) من ناحية، وإعادة لفت انتباه الولايات المتحدة لمستقبل قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية بالشمال السورى فى مواجهة الوجود العسكرى التركى مستقبلاً من ناحية ثانية.
ثانيها، ينصرف إلى نشاط عسكرى جديد لتركيا استباقاً لجولة آستانا؛ بالرغم من كونه معطى إقليمياً قديماً وثابتاً، إلا أنه ومنذ نوفمبر 2023، وبعد شهر واحد من اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، شهد هذا المعطى تغيراً ملحوظاً بإعادة تركيا الزخم إلى عملياتها العسكرية فى شمال سوريا باستهداف عدد من مقرات قوات سوريا الديمقراطية “قسد” باعتبارها متحالفة مع حزب العمال الكردستانى التركى المعارض الذى وجه لقواتها فى شمال العراق مؤخراً ضربات قاسية.
وفى 15 يناير الجارى، وسعت تركيا من ضرباتها العسكرية فى مناطق الحسكة والقامشلى وريف دور الزور الشمالى باستهداف البنية العسكرية والمدنية لمناطق الإدارة الذاتية الكردية؛ حيث عمقت من عملياتها بما يتجاوز 60 كيلومتر داخل الشمال السورى، فضلاً عن تدميرها محطات الكهرباء والنفط والمنشآت الصناعية والمرافق الخدمية من شبكات الاتصالات والمياه، الأمر الذى “قد” يؤشر إلى مستجدين: الأول، التمهيد لعملية برية عسكرية شاملة على غرار عملياتها الثلاثة السابقة فى الشمال السورى (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام). والثانى، رغبة أنقرة فى “تغيير قواعد الاشتباك” بينها وبين قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، استباقاً لجولة آستانا الجديدة، بما يوسع من نطاق عملياتها على النطاق الجغرافى من ناحية، ويؤثر على صورة الإدارة الذاتية لدى مواطنيها الأكراد باعتبارها عاجزة عن حماية مناطقها من ناحية ثانية. وجدير بالذكر هنا، أن تركيا لم تتشاور مسبقاً مع حلفائها فى صيغة آستانا (روسيا وإيران) بشأن توسيع عملياتها العسكرية فى الشمال السورى مؤخراً، ما يضع صيغة التفاهم الثلاثية أمام اختبار جديد فى ظل ظروف إقليمية مغايرة تماماً.
ثالثها، يتمثل في تعطل مسار التطبيع السورى-التركى؛ إذ أن ثمة ظروفاً إقليمية “كانت” تدفع نحو احتمالية تقارب تركيا مع النظام السورى، سبقت الانتخابات التركية فى مايو 2023، إلا أن الواقع أسفر عن تراجع مسار التقارب والمصالحة بين البلدين بعد أن عبر الرئيس التركى رجب طيب أردوغان اختبار الانتخابات وبعد إعلان توقف مسار آستانا عن الانعقاد فى يونيو 2023. وذلك يرجع إلى اختلاف وجهتى النظر السورية والتركية بشأن مسار التطبيع؛ فسوريا توقف إعادة العلاقات بين البلدين على “حتمية” الانسحاب التركى من الشمال، أما تركيا فترفض التطبيع إذا كان مقابل هذا الشرط. وتربطه بثلاثة شروط أخرى وهى: اتفاق النظام السورى والمعارضة السياسية على صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات جديدة، وعقد اتفاقات أمنية تضمن حماية أمن الحدود الجنوبية التركية من قبل النظام السورى ضد الإدارة الذاتية الكردية، وهو ما اعتبرته سوريا فرضاً من قبل تركيا للأمر الواقع، وليس رغبة فى تسوية سياسية لأوضاع حدودها الجنوبية، خاصة وأن تركيا تقرن هذا الوضع بخيارات “المنطقة الآمنة” لعودة اللاجئين السوريين بما تراه سوريا تهديداً لسيادتها على كامل أراضيها، خاصة فى ظل استمرار الدعم التركى للمعارضة المسلحة فى إدلب شمال غرب سوريا. ومن ثم يمكن القول إن تركيا تستبق اجتماع آستانا فى جولته الجديدة بوضع قيود على مناقشة فكرة انسحابها العسكرى من الشمال السورى.
فرص نجاح مسار آستانا الجديد
المعطيات السابقة تشير إلى وجود متغيرات إقليمية جديدة “ربما” تؤثر على فرص نجاح جولة آستانا الجديدة وعلى مخرجاتها، لكنها فى الوقت نفسه تخلق أسباباً تجعل من خيار العودة للمسار “ضرورة نسبية” الهدف منها، فى الوقت الحالى، هو إعادة التذكير بأن التأخر فى غلق ملفات الصراع الممتدة ذات التأثيرات الإقليمية – عبر تسوية سياسية حقيقية – من شأنه وضع تلك الملفات فى مرمى ارتدادات الأزمات الإقليمية، بما يوسع من دائرة الصراعات القديمة والمستجدة على حد سواء. وفى هذا السياق يمكن الإشارة إلى الهدف من العودة إلى إحياء هذا المسار فى الوقت الراهن كالتالى:
1- الحفاظ على الحد الأدنى من حالة الاستقرار فى سوريا؛ وهى الحالة التى ساهمت فيها صيغة آستانا لخفض التصعيد، ونجحت بالفعل على مدار السنوات الماضية. وذلك بالنظر إلى طبيعة القوى المنخرطة فى الأزمة السورية وهى نفسها المنخرطة بصورة أو بأخرى فى أزمة غزة الأخيرة، لاسيما الولايات المتحدة وإيران وقوى المقاومة الإقليمية التى لها تواجد فعلى على الأرض السورية، وإسرائيل التى تستهدف تلك القوى داخل سوريا من آن لآخر، بما يفسر وجاهة اللجوء إلى إعادة مسار التعاون السياسى بين قوى آستانا مجدداً بهدف إبقاء سوريا فى حالة من الاستقرار بالرغم من ارتدادات أزمة غزة عليها.
2- البحث مجدداً فى سبل دفع مسار التطبيع بين النظام السورى وتركيا، عبر محاولة حلحلة شروط الطرفين من خلال خلق حالة سياسية جديدة تضمن إعادة التواصل عبر صيغة التفاهم الثلاثية الروسية-الإيرانية-التركية.
3- طرح ملف إعادة إعمار سوريا على جدول أعمال المؤتمر مجدداً، وتصديره للمجتمع الدولى؛ جدير بالذكر هنا، أن الولايات المتحدة والقوى الأوروبية سبق وأن أوقفت التفاعل مع هذا الملف على توافر إرادة سياسية لدى النظام السورى لتبنى مسار فاعل يفضى إلى تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية.
4- تجديد دعم الدول الثلاثة (روسيا وتركيا وإيران) لإعادة فتح ملف “اللجنة الدستورية” الخاصة بصياغة دستور جديد لسوريا، وتقديم قدر من الاهتمام السياسى بها بما يحلحل من نقاط الخلاف بشأنها بين النظام السورى والمعارضة السياسية السورية.
وفى الأخير، يمكن القول إن عقد جولة جديدة من مسار آستانا بشأن الأزمة السورية، وفى ظل التأثيرات التى فرضتها الحرب الإسرائيلية على غزة تجاه تفاعلات القوى الدولية والإقليمية فى المنطقة، هدفه الرئيسى الحفاظ على “الثوابت” التى أقرتها “صيغة آستانا” وفقاً للرؤية الثلاثية المشتركة الروسية-التركية-الإيرانية، والتى خلقت قدراً كبيراً من الاستقرار فى سوريا. لكن تظل الأوضاع السورية فى مرمى تأثيرات تلك الحرب لاسيما فى حالة اتساع نطاقها لتتحول إلى حرب إقليمية شاملة.
مركز الأهرام للدراسات