مصر اتخذت عدة خطوات لتحجيم تداعيات الاضطرابات المناخية، إلا أن استجابتها للمشكلة تصطدم بظروف السياسة البيئية المعقدة والصعبة.
القاهرة – تواجه مصر وضعًا بيئيًا دقيقًا، إذ يؤدّي تغير المناخ إلى تداعيات خطيرة تلقي بظلالها على اقتصاد البلاد وسيادتها واستقرارها. وقد تنجم سلسلة من العواقب الوخيمة عن سوء التكيّف مع الاضطرابات المناخية أو الاستمرار بالنهج المعتاد.
ويقول الباحث يزيد الصايغ في تقرير نشره معهد كارنيغي إن مصر حقّقت تحسينات ملحوظة في بعض القطاعات، إلا أنها لا تزال من بين أسوأ الملوِّثين البيئيين في المنطقة في قطاعات أخرى. ويضيف الصايغ أن البلاد استضافت مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ للعام 2022 المعروف باسم COP27، ما أتاح لها فرصة المساعدة في تعزيز الأجندة البيئية العالمية، ولاسيما في ما يتعلق بالتعافي والتجديد، لكن تتسارع الحاجة الملحّة إلى العمل داخل مصر.
وفي العام 2019، كان نصيب الفرد من البصمة البيئية الإجمالية في مصر أعلى بـ5.3 أضعاف من نصيب الفرد من القدرة الحيوية، ما يعني أن مجموع وارداتها من القدرة الحيوية من خلال التجارة وتصفية الأصول البيئية الوطنية وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون كانت أكبر من قدرة أنظمتها البيئية على استيعابها.
وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، ارتفع متوسط درجة الحرارة في مصر بنحو 1.6 درجة مئوية، وقد يسجّل قريبًا زيادة مؤقتة تصل إلى 3 درجات مئوية بسبب ظواهر عابرة مثل بداية ظاهرة النينيو المناخية. وكما أشار تقرير المناخ والتنمية الخاص بمصر الصادر عن البنك الدولي في نوفمبر 2022 “سيؤدي ارتفاع درجات الحرارة والمزيد من موجات الحر إلى رفع معدّل التبخر المرتفع بالفعل، وتسريع عملية نتح المحاصيل، وزيادة جفاف التربة والتأثير سلبًا على وظيفتها، وزيادة الاحتياجات من المياه للاستهلاك البشري والزراعة”.
ويفضي ارتفاع منسوب مياه البحر إلى تسريع تدهور السواحل ويهدّد بإغراق دلتا النيل، ما قد يسفر عن نزوح الملايين من السكان واستبعاد مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة من العملية الزراعية في واحدة من “النقاط الساخنة الثلاث الرئيسة المعرّضة للخطر في العالم”، وفقًا للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ. ولكي تتمكن مصر من مواجهة هذه التحديات وغيرها من التحديات البيئية بطرق مجدية اقتصاديًا ومرغوبة اجتماعيًا، يتعيّن عليها أن تعمل بفعالية مع مجتمعها المدني وشركائها الأجانب. وسوف يتطلّب هذا الأمر الشفافية والشمول في التصميم والتنفيذ ومراحل ما بعد التسليم لإستراتيجيات التخفيف والتكيف البيئي، إضافةً إلى عناصر مهمة أخرى.
في مصر، تظهر هذه التغيرات المناخية العالمية على نحو أسرع من أيّ مكان آخر، إذ تُعدّ مصر جزءًا من منطقة ترتفع فيها درجات الحرارة بمعدّل ضعفَي المتوسط العالمي. ويُترجَم متوسط ارتفاع درجة الحرارة العالمية نحو 1.5 درجة مئوية إلى ارتفاع قدره 3 – 4 درجات مئوية في مصر والدول المجاورة.
وتقول الباحثة أوليفيا لازار في تقرير نشره معهد كارنيغي إنه من غير الواضح ما إذا كان هذا الأمر سيحوّل مصر إلى مكان غير صالح للعيش بشكل كامل أو جزئي. ولكن لا شك في أن أشهر الصيف سوف تصبح صعبة التحمّل، وسوف تتأثّر الموارد الطبيعية في مصر بشدة، ما سيؤدي إلى تقويض النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على نحو قد لا يسهل توقّعه دائمًا.
وبحلول العام 2025، قد تنخفض إمدادات المياه في مصر إلى أقل من 500 متر مكعب للفرد، وهو المستوى الذي يحدّده علماء الهيدرولوجيا بأنه مستوى “الندرة المطلقة”، وذلك قبل الوصول إلى متوسط 1.5 درجة مئوية المحتمل على المستوى العالمي؛ وإذا حدث ذلك، سيؤدي إلى المزيد من تبخّر المياه، وانخفاض أنماط هطول الأمطار، وزيادة الاضطرابات المناخية المرتبطة بالمياه، مثل الفيضانات وموجات الجفاف الطويلة. وستعاني بشكل خاص منطقة دلتا النيل، حيث تقع المدن الكبرى وتوجد الكثافة السكانية الأعلى في مصر.
وسيفاقم ارتفاع معدلات تبخّر المياه وانخفاض هطول الأمطار بشكل كبير الانخسافات الأرضية ومعدلات الجفاف نظرًا إلى أن الدلتا هي الموقع الأخير لتدفّق نهر النيل، إضافةً إلى ذلك، إذا استمر العالم في اتّباع ما تصفه الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ بسيناريو الانبعاثات المرتفعة، فسوف يرتفع أيضًا منسوب مياه البحر، ما سيؤثّر بشكلٍ مباشر على الساحل المصري، ليس فقط بسبب التآكل ولكن أيضًا بسبب زيادة الملوحة.
وستواجه مصر بشكل متزايد تحديات بيئية بسبب ارتفاع درجات الحرارة، والانخفاض الحاد في الموارد المائية، والانخساف الأرضي وزيادة الملوحة والكوارث الطبيعية. وسوف تشمل التأثيرات البيئية اضطرابات على مستوى الاقتصاد الكلّي المرتبطة بالندرة والصدمات، ناهيك عن الاضطرابات الاجتماعية المرتبطة بالظلم المناخي واتّساع فجوة التفاوت والتهميش (التي تفاقمت بسبب الافتقار إلى شبكات الأمان الاجتماعي).
سيؤدّي ارتفاع درجات الحرارة وتأثيرات ذلك على إنتاجية العمل والنشاط الصناعي، فضلًا عن قلّة الأراضي الزراعية، إلى زيادة العجز في الميزان التجاري. وفي ظل تزايد انكماش القطاع الزراعي في مصر وزيادة الاعتماد على الواردات الغذائية، ستصبح البلاد أكثر عرضةً للضغوط التضخمية الناجمة عن اضطرابات سلاسل التوريد في جميع أنحاء العالم.
ومن المتوقع أن تتفاقم هذه الاضطرابات بشكل كبير في السنوات القليلة المقبلة، ليس بسبب تأثير ظاهرة النينيو على الاقتصاد الحقيقي فحسب، بل أيضًا بسبب نقص التقدّم الملموس في مجال التكيّف مع تغيّر المناخ والتخفيف من حدة تأثيراته في جميع أنحاء العالم، وفي منطقة شمال أفريقيا ومصر. وإذا اتجه الميزان التجاري المصري نحو المزيد من العجز الهيكلي، فسيؤدي ذلك إلى سلسلة من التأثيرات المتتالية.
ويمكن أن تصبح مصر على نحو متزايد رافدًا للاستثمارات الأجنبية المباشرة التي غالبًا ما توفر دخلًا ضريبيًا أقل وتجعل الحكومة المركزية أكثر عرضةً للمساءلة أمام المستثمرين الأجانب مقارنةً مع الدوائر الوطنية. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى اتّساع فجوة التفاوت على مستويات الدخل والأقاليم، وفقدان الثقة بشكل أكبر في الحكومة الوطنية، وربما أيضًا إلى إدارة اقتصادية أقل شفافية.
وفي نهاية المطاف، قد يؤدي العجز الهيكلي إلى سوء تكيّف شديد، وبالتالي إلى تفاقم فجوة التفاوت والتهميش والعنف، ما من شأنه أن يدفع الحكومة المصرية إلى اتّخاذ المزيد من الإجراءات التي تنمّ عن سوء التكيّف. وحذّر الفريق العامل الثاني التابع للفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ في تقريره للعام 2022 من أن البلدان التي تعاني حاليًا من مشاكل كبيرة مرتبطة بعدم المساواة والتهميش تواجه احتمالًا أعلى بعدم التكيّف مع الاضطرابات المناخية، ويُرجَّح أن تظل عالقة في حلقة مفرغة من عدم المساواة وسوء التكيّف، ما من شأنه أن يثبط جميع أشكال النمو الاقتصادي.
وقد تنحسر تدريجيًا وهيكليًا قدرات مصر الاقتصادية الكليّة والسياسية، ما قد يزيد من احتمال حدوث الاضطرابات وانتشار القمع والفقر. بعبارة أخرى، قد يفضي تغير المناخ إلى تضاؤل قدرة مصر على حكم نفسها وتحديد مستقبلها. فالمناخ والمساحات البيئية ليست خلفيةً للاقتصاد المصري، بل هي عوامل تسهم في تمكينه، كما هو الحال في أيّ مكان آخر. في مواجهة التغيرات المناخية والبيئية الجوهرية والمخاطر الجسيمة التي تهدّد استقرار مصر وسيادتها، يبرز سؤال مهم: كيف تقود مصر التغيير؟
وترى ياسمين حسين، أن أعمال التطوير العقاري الساحلي في مصر تتجاهل عمليًا المخاطر الحقيقية والمتسارعة المرتبطة بتآكل السواحل وانخساف الأرض وزيادة الملوحة. ويسهم المطوّرون أيضًا في نزوح المجتمعات المهمّشة إلى الداخل، حيث تنخفض قاعدتهم الاقتصادية بسبب تدنّي خصوبة التربة وتراجع إمكانية الحصول على المياه العذبة وارتفاع درجات الحرارة. وهذا لا يؤدّي فقط إلى التمييز على مستوى الوصول إلى الساحل، حيث تُعطى الأفضلية للملّاك من القطاع الخاص بدلًا من المجتمع المحلّي، بل قد يسهم أيضًا في نشوء تبعية اقتصادية غير صحية مدفوعة بالاستثمار الأجنبي على حساب الصالح العام.
◙ ما تحتاجه مصر هو تحوّل في إستراتيجياتها البيئية من النمو غير المنضبط إلى تنمية مستدامة حقيقية
ويمثل النهج العشوائي الذي اتبعته الحكومة المصرية عائقا أمام بناء القدرة المؤسسية وإطار متكامل للسياسة البيئية. فمع أن الحكومة أنشأت في العام 1994 لجنة وطنية للإدارة المتكاملة للمنطقة الساحلية، فإن اللجنة لا تزال غير نشطة على الرغم من إعادة تشكيلها رسميًا في العام 2007.
ومع أن مصر أضافت إستراتيجية وطنية للإدارة الساحلية المتكاملة في قانون حماية البيئة المعدّل رقم 9 للعام 2009 واللوائح المرتبطة به رقم 1095 الصادرة في العام 2011، فإن البلاد ليست جزءًا من البروتوكول الدولي للإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية الذي تم التوصل إليه في يناير 2008. وفي العام 2018، أطلقت وزارة الموارد المائية والري المصرية مشروعًا يحظى بتمويل الأمم المتحدة من أجل “تعزيز التكيّف مع تغير المناخ في الساحل الشمالي ودلتا النيل”، والذي تم تقديمه منذ بداية العام 2023 بأنه جزء من “نظام متكامل لإدارة المناطق الساحلية”. لكن ما تم نشره عنه هو أقرب إلى مفهوم فضفاض منه إلى إستراتيجية ملموسة، فموقع الوزارة الإلكتروني لا يقدّم أي تفاصيل، في حين أن البيانات الصحافية لا تقوم إلا بتكرار الأهداف والمبادئ العامة.
وتمثّل الثغرات عقبة أخرى في وجه التنفيذ الفعّال لأُطر الإدارة البيئية التي تبدو جيدة على الورق ولكنها تبقى قاصرة في الممارسة العملية. وعلى سبيل المثال، أطلقت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية ووزارة البيئة بشكل مشترك “دليل معايير الاستدامة البيئية: الإطار الإستراتيجي للتعافي الأخضر” في العام 2021، بهدف دمج الاعتبارات البيئية بالقطاعات الاقتصادية والاجتماعية كافة سعيًا إلى تحقيق التنمية المستدامة. ووفقًا لقانون البيئة المصري رقم 4 للعام 1994، يتعيّن على المشروعات الجديدة إنجاز تقييم الأثر البيئي قبل البدء في أيّ بناء، لأن القيام بذلك هو أحد متطلبات الحصول على الترخيص. وهذا الإطار جديرٌ بالثناء، لكنه يستند إلى تصنيف أجراه جهاز شؤون البيئة عن المناطق المعرّضة للخطر (أ، ب، ج) بحسب درجة الخطورة البيئية.
وينتقل المشروع من تصنيفه الأساسي إلى التصنيف الأعلى خطورة بحسب مدى الضرر، ما يجعله لا يتحلّى بالكفاءة اللازمة لتقييم المشاريع على طول الساحل الشمالي الغربي. (فالساحل مصنّف أساسًا ضمن الفئة “ج”، عالية المخاطر). علاوةً على ذلك، وفي حين أن القطاع الخاص ملزمٌ بتقديم تقييمات الأثر البيئي قبل الحصول على تراخيص لبناء المرافق أو تعديلها، من غير الواضح ما إذا كان نظراؤه في القطاع العام يفعلون ذلك أيضًا.
وواقع الحال أن ما تحتاجه مصر هو تحوّل في النهج من النمو غير المنضبط إلى تنمية مستدامة حقيقية تقدّر وتحمي الخصائص المميزة للساحل الشمالي الغربي، وتفتح حوارًا مع المجتمعات المحلية، وتحترم الدستور واللوائح المتعلقة بالبيئة والحق في الحصول على المعلومات، وتستفيد كذلك من الفرص الاجتماعية والاقتصادية. ومن دون هذا التحوّل في النهج، فإن السباق لتوطين الملايين من الأشخاص على طول شريط ساحلي ضيّق بتكلفة تفوق إمكانات مصر بكثير سيغرق البلاد في حلقة متفاقمة من التدمير البيئي الناجم عن الطبيعة والبشر على حد السواء.
العرب